+ A
A -
بقلم د. إبراهيم عرفات

كثيراً ما تدفعنا صدماتنا من أهوال الجديد إلى الحنين بشدة إلى القديم. وكثيراً ما يحملنا خوفنا من توحش اللحظة الراهنة إلى البحث عن مأمن في زوايا قديمة من الذاكرة. كلنا يتذكر طفولته وأيام الماضي البسيطة التي عشناها ونتمنى لو تعود لدقائق لنحياها من جديد. تلك هي طبيعتنا البشرية، وليس في ذلك ثمة خطأ. فالذاكرة ليست فقط للحفظ وإنما أيضاً للتعويض. فنحن من جانب، نحفظ بها ونُخزن فيها كثيراً من تجاربنا وعديداً من المشاهد التي مرت بنا. ومن جانب آخر، نستعيد من خلالها ما يعوضنا عما فقدناه لما كبرنا لكي نُشبع سعادتنا حتى ولو بخيالات نعرف أنها لن تعود. وليس أفضل من الصور ناقلاً مريحاً يأخذنا إلى الماضي. فهي مخزن عامر بالذكريات وحاوية ثرية للحكايات وسجل دقيق للأحداث.

وقد جرفتني صورة بديعة وجدتها على صفحة الفيسبوك لصديقي النابه والموسيقي الموهوب الأستاذ يحيى الموجي، وهو أحد ستة أنجال لرائد من رواد الموسيقى العربية في العصر الحديث وهو الموسيقار المبدع الأستاذ محمد الموجي رحمات الله عليه. ولا يحتاج الأستاذ «محمد الموجي» إلى تعريف لأنه علم ولأن المعرف لا يعرف. كل ما تحتاجه عزيز القارئ في هذا المقال أن تركز في تلك الصورة التي أشكر نجله الأستاذ «يحيى» على مشاركتها. وها هي الصورة أمامك. كبرها وارصد فيها كل ما تستطيع. كل شيء فيها سيذكرك بقصة كان معظمنا إن لم نكن كلنا جزءًا منها.

وقبل الوقوف على تفاصيل تلك الصورة أشير إلى العنوان الذي اخترته لها، وهو «كحك الموجي»، والذي كان لا ينفصل عن عصر الموجي بأكمله. فالصورة ليست عن صناعة كحك العيد فحسب، وإنما عن زمن اجتماعي مختلف. صورة تفيض بما هو أبعد بكثير من مشاركة زوج لزوجته وأب لأبنائه في الاحتفال بمقدم عيد الفطر، لتُذكرنا بمنظومة حياة مبهجة ومختلفة عندما لم تكن الأسر المصرية تقبل على شراء الكحك الجاهز، وإنما تسارع في الأيام الأخيرة من رمضان لتجهيز كافة مخبوزات العيد في بيوتها لتتبادل ما يصنعه كل بيت مع جيرانه في البيوت الأخرى في مشهد يعكس التآلف والتقارب والتشابه الاجتماعي ورغبة الجميع في تمتين صلات عناصره ببعضها وهي مسألة محورية في تكوين الطبقة الوسطى التي كانت هي الطبقة المسيطرة في ذلك الزمان. ولنقف الآن على بعض ما في تلك الصورة من عناصر لنعرف دلالة «كحك الموجي» بالنسبة للنظام الاجتماعي المصري في حينه.

1) مكان عمل الكحك هو غرفة النوم وليس المطبخ، وكانت تلك العادة شائعة وبسببها كانت غرف النوم، بل والبيت بأكمله، تكتسي برائحة طيبة لفترة طويلة. ولم يكن العدول عن المطبخ إلا لكي لا يختلط الكحك بأبخرة الأطعمة الأخرى التي قد تغير نكهته وتفسد طعمه وبهجته.

2) وهناك الطبلية الخشب التي كانت الأسر المصرية لا تستغني عنها حتى لو كان بالمنزل غرفة طعام معدة على الطريقة الغربية الحديثة، حيث لم تُنس الحداثة المصريين الحفاظ على الأصالة ولو تجسدت في طبلية.

3)خلف الموسيقار محمد الموجي توجد قطعة رئيسية من أثاث غرف النوم يطلق عليها المصريون اسم «الشوفينيرة»، وتكاد أشكالها وألوانها وأحجامها تتشابه في معظم بيوت الطبقة الوسطى في ذلك الزمان.

4) بجانب «الشوفينيرة» توجد مجموعة من الصيجان التي يتم رص الكحك عليها لكي تُحمل فيما بعد إلى أحد المخابر القريبة من أجل خبزها. هذه الصيجان كانت أيضاً شائعة بين كل الناس في ذلك الزمان.

5) ثم دققوا في توزيع الأدوار. فالأم مسؤولة عن العجن وعن تقسيم العجين إلى دوائر متساوية، تنتقل بعدها إلى الأب الذي يعمل فيها بمنقاش الكحك ليصنع بروزاً أو حفراً متساوية العمق ومتسقة الشكل على سطح كل كحكة لكي يسهل نثر السكر المطحون عليها بعد خبزها. ولم يكن الكحك وحده الذي ينقش بطريقة واحدة وإنما كان المجتمع كله في حينه يُنسج بمنقاش مشترك. الطريف الذي لا تكشفه الصورة لكن يكشفه الموسيقار يحيى الموجي أن والده كان ينقش اسم كل ابن من أبنائه على واحدة من حبات الكحك، وهو ما كان يستغرق منه وقتاً، ثم كان يحرص على أن يستمتع كل ابن من أبنائه بأكل حبة الكحك التي تحمل اسمه مع انطلاقة العيد. ذلك العطف الاجتماعي اللافت كان أيضاً من صميم مشاعر وتقاليد أسر الطبقة الوسطى في حينه.

6) هناك منقاشان في الصورة، واحد بيد الموسيقار الموجي والآخر ليس بعيداً عن يد الأم التي من المؤكد أنها كانت تسارع في إطار هذا الجهد الجماعي لمساعدة زوجها في عملية النقش بعد أن تفرغ من تقطيع وتجهيز العجين.

7) ثم هناك البيجاما التي يلبسها الأستاذ الموجي والملابس التي يرتديها نجله يحيى ونجلته أنغام. وتكاد نفس خاماتها وربما نفس ألوانها توجد في حينه في كل البيوت المصرية.

8) ثم لا تنس أن تنظر إلى حذاء الموسيقار محمد الموجي الموضوع تحت «الكوميدينو»، وهو مكان عرف في كثير من البيوت المصرية بأنه الأنسب لإبعاد الأحذية بقدر الإمكان عن العيون.

9) ثم ذلك الطبق الموضوع تحت الطبلية والذي كان عادة ما يوضع فيه بعض الماء الذي قد تحتاج إليه من تقوم بتقطيع العجين لترطيبه أو لتنظيف مناقيش الكحك.

10) ثم انظر إلى قطعتي العجين اللتين تركتا للصغيرين في حينه، وهما صديقي الأستاذ يحيى، أدام الله عليه الصحة، وأخته أنغام رحمة الله عليها. كانت الأسر وقتها حريصة على إدماج أبنائها في كل نشاط حيث لم تكن أدوات التكنولوجيا الحديثة قد مزقت الأسر وفرقتها. لقد أُعطي الصغيران في حينه، كما كنا نُعطى، قطعاً صغيرة من العجين لتحفيزهما على المشاركة وللاستمتاع بالمناسبة دون تعطيل الكبار عن العمل.

هذه الصورة لا توضح فقط كم كان الأستاذ الموجي بسيطاً في حياته وحنوناً مع أهله وإنما تتكلم أيضاً نيابةً عن مئات الآلاف من بيوت مصر في حينه. إنها بيوت الطبقة الوسطى التي كانت كبيرة ثم بدأت تنكمش بشكل مخيف لعله هو ما يدفعنا اليوم إلى تلك النوستالجيا وذلك الحنين إلى الماضي محاولين أن نلتمس فيه أية صورة تذكرنا بالصواب الاجتماعي الذي هجرناه وتعرفنا بمعنى المجتمع المتماثل الذي فارقناه وبأهمية الطبقة الوسطى التي هي صمام الأمان للوطن. إن مجتمعاً تكبر فيه الطبقة الوسطى ويتصرف فيه نجومه كما يتصرف فيه عامة الناس لمجتمع آمن ومستقر ومتماسك. رحم الله الموسيقار محمد الموجي ورحم كل مبدع أصيل يحترم الذوق العام ويجتهد ليقدم إبداعاً راقياً يبعد عن السفه والتفاهة ويذكرنا بأن النخب الحقيقية هي التي تعيش مثل باقي الناس.

copy short url   نسخ
14/04/2024
0