+ A
A -

لقد وثّق مالك بن نبي لقاءاته مع ماسينيون، ومشروعه الثقافي التنفيذي، في صناعة أرضية احتواء واستيعاب لصالح الزحف والتوحش الفرنسي، تقوم على ثنائيتين مهمتين، الأولى حركة التشكيك في مصادر الإسلام الأصلية، عبر تقديم قراءات استشراقية بديلة، عن المصادر الحقيقية لتاريخ التشريع الإسلامي، والثاني متابعة أي مجموعة أو شخصية نابهة، لاحتوائها في سياق (فرنسة الإسلام) كمنظومة تراث وإلهام أدبي، وهو ما أشار له إدوارد سعيد، في حديثه عن طبيعة الاستشراق الفرنسي الذي تمثله شخصية ماسينيون، ونقده المهم لروح الكراهية والازدراء للإسلام، في شخصية ماسينيون.

وبالتالي فمالك بن نبي مثّل حالة تمرد فكرية مفاجئة، التقطته كوادر المكتب الثاني، ليس كعملاء مخابرات تنفيذيين بالضرورة، وإن وجد ذلك، ولكن في حالة مؤسسة ماسينيون، يتم ذلك عبر عناصر تتبع مباشرة، أو هي ضمن الهيكل الثقافي الذي يشرف عليه المستشرق الضخم، وهكذا فإنك تدرك بعد البحث بأن ذلك الخنق، الذي قال مالك بن نبي، أنه كان يدفعه فكرياً للإلحاد، واقتصاديا للتفكير وزوجته في الانتحار.

كان ضمن حلقات ضغط شرسة، حجبت عنه أي فرصة وظيفية، بل حجبت شهادته كمهندس كهرباء متفوق في دفعته، والتي لو راجعنا فصول الظاهرة القرآنية الأولى، سيبرز لنا فيها أن ذلك النبوغ العلمي في فهم هندسة الكهرباء، وعلاقتها بالنظريات العلمية حول هندسة الكون وتخلقه الأول، والتي كانت تُستخدم كمادة أساسية في التبشير بالإلحاد، فمالك بن نبي من خلال تفكيك هذه الحتميات العلمية ذاتها، أسقط عقيدة التخلق الذاتي دون تدخل غيبي، عبر نفس المعطيات والتراتبية العلمية لنظريات الذرة وإلكتروناتها.

هذا التفوق أدرك المكتب الثاني خطره حين يتحول من المادة العلمية إلى الفكرية، ثم يندفع فيه مالك بن نبي إلى ما يتلو تأسيس الظاهرة القرآنية، فيُبشر بنظرية نهضة، تُعيدُ الاعتبار للعقل الإسلامي القوي معرفياً، والمكافح في سبيل استقلال وطنه والمشرق الإسلامي، بل العالم الجنوبي كله.

ومسألة التعقب، بل والتصفية للقوى الفكرية الرافضة للاحتواء، من المستعمر أو المستبد الموالي له، ليست غريبة في التاريخ العالمي المعاصر، أكان مناضلاً سياسياً ناشطا، أو مؤسِساً متفاعلاً لمنظومة فكرية تعزز قيام الذات البشرية، في مناطق الاضطهاد والمستعمرات، بواجب التحرر الفكري الذي يسبق الاستقلال السياسي، وهذه كانت قصة مالك بن نبي الذي حرص أن يوثقها عبر مذكراته، لتنشر بعد وفاته.

لكن الفصل المُر والمظلم من هذه القصة، هي أن مالك بن نبي يرى أن ما تعرض له في الجزائر في آخر رحلته، كان ضمن بقية الإرث الذي زرعه المكتب الثاني في الجزائر ما بعد الاستقلال، ولقد توفي في ظروف حزينة تحت هذا الوضع، ولا نعرف من هي الأطراف التي وجهت من خلال إدارة الرئيس أبو مدين أو سياسته، والأطراف التي اختلفت مع مالك بن نبي بسبب حدته -رحمه الله-، فلعبت دوراً مهماً في زيادة مأساته، نقولها من خلال قراءتنا لمذكراته بقلمه.

لكن في نهاية الأمر فإن هذه الخاتمة المؤلمة التي حرص مالك بن نبي على كتابة حكايتها، قبل سقوطه الأخير وانتقاله للملأ الأعلى، جرت له بفعل فاعل وأعادت الظروف التي خنقته في المرحلة الأولى، فحقٌ لهُ أن تُثبّت هذه الحقيقة، وحق له علينا أن نَفصل بين هذه المسيرة المؤلمة، وبين ما أثر على مالك بن نبي نفسياً، فأحدث تفاعلاً لا بد من أن يفرز في تحرير فكرته عن النهضة.

لكن من دروس مالك بن نبي المهمة، هي ضريبة الاستقلال الشرسة، ثم ما يفوت الصالحين والمصلحين، من مساحة مشتركات كان بالإمكان أن تتحقق بينهما لصالح الأمة والوطن، كما هو ما بين مالك بن نبي وجمعية علماء الجزائر، وبينه وبين القادة المخلصين في الحراك الوطني الجزائري، المستقلين عن ثقافة ومشروع فرنسا، وهو ما كان سيساعد لخروج مالك بن نبي من بعض الانفعالات الحادة، ويسمح بتدفق أكبر وأفضل، لمشروعه في سبيل نهضة الأمة، والتحرر الكبير للجزائر.

بقي هنا أن نثبت حقيقة كبرى، وهي أن مالك بن نبي، ورغم أن المكتب الفرنسي الثاني، تمكن منه في التضييق على حياته وعزله، إلا أنه عاد بقوة وامتد عمره إلى زمننا، والمستقبل الإسلامي، حيث يظل قلمه اليوم وبلغة فكرية قوية، يخترق القبة الحديدية للعهد الكولونيالي الفكري، حيث يهدم مالك بن نبي عبر ظاهرته القرآنية، النموذج المزيف للاستشراق القرآني، فيعيد قوة الميزان العلمي والمعرفي، لقصة القرآن في حياة الإنسان، وواقع النبوة وميلادها المعجز في تاريخ البشر، والمتطابق مع تاريخ الوحي بين الأرض والسماء، رحم الله أستاذنا عبر السطور مالك بن نبي، وبارك في علمه في عالمنا اليوم.

copy short url   نسخ
14/04/2024
95