هناك رابط بين ما يحُصّل من ميراث ابن خلدون، وبين ما واصل به النحت الغربي، لتحرير علم اجتماع حقوقي، وتنظيمي لشؤون الدولة والمجتمع، ومقصدها الأعلى، وهو لدى روسو وابن خلدون معاً الفطرة، سوى أن قصور الحفريات الإسلامية من بعد ابن خلدون وقبله، وعجز روسو عن بلوغ يقينيات علم الاجتماع، في الفلسفة الإسلامية، شكّل فراغاً ضخما، خاصة في علاقة الفطرة بالحرية، وهو ما نواصل البحث فيه هنا.
فروسو في عقده الاجتماعي، رغم أنه يشير للكينونة الطبيعية للأبوة في عالم الأسرة، غير أنه ينزع أي حق له، على أبنائه، ثم ينزع حق رعايته لهم فور استغنائهم عنه، حيث يضع روسو علاقة الآباء في سياق براغماتي نفعي، لصالح الطفولة في زعمه، فينزعه من القيم الروحية، التي هي من بعث خُلق الرعاية والحب للأطفال في قلب أبيهم، وهذا ما دعانا نستدعي مذكراته في هذا التفكيك الفلسفي، حين ألقى اطفاله في الملاجئ عند ميلادهم.
إذ أن معاقبة روسو لذاته، ليست حُجّة في مضيه نحو هذه النزعة ضد الأبوة، فلماذا يُحرر ركن التعاقد الاجتماعي للبنية الأولى لتشكلات الشعوب، وهي الأسرة، بناءَ على خطيئة فردية، بل حتى سياق روسو في حياة إميل يتناقض مع هذه الروح ذاتها.
لقد مضى روسو إلى فكرة نشوء العلاقة الرعوية بين الشعوب والدول، من هذا المنطلق، ولكن ومع وجود خلاف مهم بين روح الأبوة وسلطتها التي تدور حول قلق الآباء، وحدبهم على بنيهم في الأصل.
وهذا هنا هو ما يهمنا في المركز الكوني، أي علاقة المجتمعات بتاريخ التشكل الكوني الطبيعي، الذي تاه في البحث عنه روسو، فكانت هذه المفاصلة، هي الإشكالية المبكرة، التي تنفرد فيها الرؤية الإسلامية، في فلسفتها الأخلاقية والتشريعية معاً عن الرؤية الغربية.
فهل التنازل عن الحرية عبودية؟
في الفصل الرابع من العقد الاجتماعي يهدم روسو بقوة، الأساس الذي يُطلق يد الاستبداد، في الشعوب والتحكم بهم، وينقله فوراً إلى مساحة العبودية، والعبودية في المفهوم والممارسة، قضية ركنية في تحرير القانون الاجتماعي في التاريخ البشري، لكن روسو يستأنف التحرير الفكري، في نقض ما درج عليه المتقدمون، فيقف عند تساؤل غروسيوس: من أن الفرد قد يقبل العبودية فهو هنا يبيع حريته، فلماذا لا يستطيع شعب أن يبيع حريته للملك؟
هذه المقاربة التي خلق فيها روسو انتفاضة أخلاقية في العقل البشري، مهمة جداً في تاريخ هذا العالم، وهي أن السُخرة المطلقة التي تقدمها الشعوب، لصالح الملك أو الزعيم، هي في الأصل تنازل عن حق الحرية للجماعة الوطنية، بمجموع أفرادها، وعليه فإن الشعب يكتسب حالة عبودية دون أن يُعلن ذلك، وهذه الصفة أو المآل نجدها تظهر، بالفعل في تاريخ الشعوب، حين يغرق حكامهم، في تسخيرهم، وهو أمر مشهود في عالم اليوم.
وفي تاريخ الشرق نجد أن هذا الأمر تشكلت تطبيقاته العملية بالفعل، فكان مدخلاً لعبودية تنفيذية سخرها هذا السلطان أو الملك أو الزعيم، وفي الأصل القرآني والنص التشريعي، دوماً هناك حد لطاعة هذا الأمير أو ذاك السلطان، ونهي وتقبيح وتجريم للطاعة المطلقة، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، لاحظ هنا أن القطع القرآني عمم القوم، أكانوا شعبا أو قبيلة أو جماعة، بهذا التقريع والإدانة.
والقرآن تشمل معاني إدانته صور الظالمين والظلم، حتى في مساحة استبدادهم في الرأي دون الناس، وذلك يظهر في تعقيب القرآن على وصف سبأ ملكة اليمن:
(قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) وابن عباس يرى أن لفظ (وكذلك يفعلون) هو -تعقيب إلهي- فهو هنا محال على نماذج الملوك الفجرة، السارقين لحرية الشعوب.
وكل ما ورد في النص الشرعي من مذمة تتجه لهذا الاستبداد العبودي، والذي يأتي من خلال تخلي الشعب عن حريته، ولذلك نهى الشارع وذم هذا التنازل عن الحرية، وجعل من يكافح في سبيلها، في مقام علية الشهداء، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله).
هذه الشهادة جاء تعظيمها لمنع بيع الشعوب لحريتها، واكتساب عبودية طوعية، ولذلك فمواجهة هذا الواقع، هي حقيقة متطابقة بين القيمة الكبرى التي يمنحها الله للإنسان، عبر الكرامة الآدمية وبين توثيق ذلك في رحلة إسلامه، بأنه يكتسب حرية جديدة أقوى بنية وصناعة نفسية، وهو في قرار إسلامه ذاته أو كفره، أعطاه القرآن حريته القطعية، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).