في مهمة ممنهجة تم التواطؤ عليها، قديماً وحديثاً، يُغيّب في التشريع الإسلامي، فريضة قطعية في القرآن، تقوم على قاعدة تأسيسية، في سنّ التشريعات القانونية المنظّمة، لحق الفرد أمام السلطة، هذا التغييب ألغى الركن الرئيسي في باب علم الاجتماع المتعلق بحرية المواطنة والنقد السياسي.
وهذا الركن هو في تحرير موقف المسلم وحمايته تشريعياً في الإسلام، للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا المنكر يُشكّل العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي أهم جوانبه.
ولكن إخلال المسلمين بهذا الركن التعاقدي في مفهوم السلطان، أو الحاكم الأجير للأمة، والذي نُقض مبكراً في تاريخ المسلمين أضعف هذا المفهوم، وتسبب في هزالة واقع المسلمين وكثرة الصراعات بينهم، فالحرية التي تقوم على التكليف الرباني، استُبدلت بتقديس الحاكم، واعتبار ذاته وكأنها مقام الحكم الإلهي، وهذا انحراف كبير عن نصوص الشارع وقطعيتها.
واستخدمت مكانة ولي الأمر، في خلط مخالف للهدى الإسلامي، فمع أن الشارع يُعطي أهلية العدالة ويندب لها في نصوص عديدة، ويُعزّز مفهوم قبول الحاكم أي مجيئه برغبة الأمة، واستمرار بقائه برضاها، بناء على هذه الأهلية للقيام بحق الأمة وشعوبها، إلا أن الأمر عُكس في تاريخ المسلمين، وسُلط المستبد عليهم، عبر تزكيات (شرعية) مزعومة لا أصل لها.
وكون أن مراعاة الاستقرار والسلامة من الدماء، ومنع فوضى الحرب الأهلية، أموراً استخلصها العلماء في ظل ما أصاب الأمة من كوراث، فهذه المراعاة تتفق مع الشريعة في السلم الأهلي، إلا أن هذا لا يعني جواز تزكية المستبد، وإطلاق يده في المعارضين من الشعوب واضطهادهم، فهذا لا يتفق مع الحق الاسلامي، وإنما مع فقه الاستبداد الذي بُلي به المسلمون.
ويتبقى هنا المفهوم الإسلامي لقاعدة الحرية للمواطنة والفرد، والموقف من بقية الأمم، ومعالجة قضية العبودية في تاريخ المسلمين، فلا يوجد في الإسلام مساحة لبيع الفرد ولا الشعب لحريته، على سبيل المجاز ولا الحقيقة، وإنما كل عبودية في الإسلام، مناطها محالٌ إلى قضية أسرى الحروب، ولا يوجد مطلقاً تشريع عبودية على أي إنسان حر.
والإشكال هو إسراف المسلمين في هذا الأمر، ونقضهم في بعض مراحل التاريخ لشروط الأسر، وحقوق العتق والتعامل الكريم، وهو من غيّر مسار هذه العبودية، وحاصر مساحة حرية تحرير العبيد بعد الأسر، فضلاً عن تقدير كل زمن بواقع ظروف الحياة فيه، بين الفداء والأسر.
في حين نعتقد أن تاريخ العبودية الغربي الذي سعى روسو لقطع أغلاله، في الدولة والنظام الدستوري، ذو ارث عميق وموغل في هذه العبودية واستحلالها على الأمم المختلفة، وامبراطورياتها القديمة والدولة المعاصرة، وفي زمننا نحتاج تقييم معنى الحرية في هيمنة الحداثة، وسلب الإنسان قدرات تفكيره وتقديره، حين يُلقى إلى خضم مكائنها المتوحشة، فهي عبودية من نوع آخر.
كل ذلك يتفق مع قاعدة روسو في قوله: (أن الإنسان يعطي نفسه متبرعاً (لحاكمه) مُحالٌ لا يمكن تصوره، وعقد مثل هذا باطل غير شرعي)، وتصوّر هنا طريقة خطاب الاستتباع والتمنّن المتطرف التي تجري في بلاد المسلمين، بين الحكام والشعوب، كيف تحولت إلى صيغة تملّك ضمنياً، لا يملك الشعب فيه قدرة ولا مساحة لاسترداد حريته، وحين يحاول استردادها يصنف بمعارض مارق، قد يُعمل السيف في رقبته أو يسجن زمنا طويلاً.
إن أولى الأولويات في العودة إلى تحرير علم الاجتماع الإسلامي، هو إنقاذه من التركة التراثية، التي نقضت عهود الشريعة، وقطعيات القرآن، ووصايا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عنه (خير أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم، وشر أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم).
وهناك تعاقبٌ في السنة النبوية، على تعظيم الحق الفردي، وأن الخشية المعظمة، هي في التحريج على الحاكم (ولي الأمر) من ظلمه لرعيته، في حين تجد أن الانحراف التراثي المعاصر، قلب الأمر على الفرد، وحقه الأساسي، ليس في الخروج المسلح، ولا في نقض مواطنته وإقراره للدولة، ولكن حتى في مساحة النقد السياسي والحقوقي.
وهذا يعيدنا لتنظيم الحوار حول منتجات علم الاجتماع الغربي، وما الذي يُدمج في مفاهيم الحضارة الإنسانية المشتركة، ونخص بذلك نحت المفاهيم وتحرير البنود التعاقدية الدستورية منها، والأهم من ذلك روحها التنفيذية، لصالح الشعوب، وكيف لا يكون ذلك، والمقصدُ كما بيّنا في أصله، هو إسلامي عميق، قامت عليه فلسلفة القرآن، فأيُ الفريقين خير، من طارد حقوق الأمة والمواطنين، وجعل يُسفّه كل مصلح فيهم، ويحرض عليهم باسم الشريعة، أم من قاوم تشويه الإسلام، ورد علم الاجتماع فيه إلى الحرية القرآنية؟