هناك جانب معرفي جدير بالتداول، وهو هل من الضرورة لضم الفكرة أو المسألة الجدلية، إلى منصة الفلسفة الكبرى، من وضع عنوان متعلق بالفلسفة، كمصطلح حصري، أم أن الفلسفة هي في أصلها، سؤال بحث عن الوجود وحكمة الخلق، والتفاعل مع هذه الأرض، وفي جمهوريتها يعود سؤال البحث الدائم عن الإصلاح الأخلاقي، بين البشر وبين البشر والأرض، لاحظ هنا ثلاثية مالك بن نبي في مدخله للنهضة، وهي تحريك التفاعل بين التراب والإنسان والزمن، فالتراب هو البيئة التي نشأ فيها الفرد والحضارة، والزمن تقدير العهد التاريخي لمراحل التفاعل، ودور الإنسان هو في تحريك الاندماج الخلّاق بينهم.
وخلافا لنظرية النقد الشمولي للحضارة الغربية، التي تكاد ترفض المشترك الحضاري، أو تحصره في منظومة ضيقة، أو تتحفظ على كل مصطلحاته، بحجة أن الروح الإسلامية متباينة في أصل المنطلق، فإن مالك بن نبي يرى أنه من الخطأ، أن تُفصل الحضارات بسور حديدي، فإيمانه هو أن الميراث الحضاري مشترك خَلقي، فهو نحت الإنسان في دورات الزمان في بيئة كل أمة. فلم يحوّل مالك بن نبي صراعه مع العالم الكولونيالي، لانفصالية مطلقة بين الذات البشرية هنا وهناك، وإنما توقف عند لزوميات التاريخ البشري، ولذلك نستحضر هنا لماذا نبأنا الله بخبر من قبلنا ونبأ من بعدنا، وأين نضعه في الميزان القرآني المقدس، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)، فكيف إذا كان مقتضى هذا البيان، وصول الحضارات إلى مفاهيم تنظيمية للحقوق والعدالة الاجتماعية، وهي المفاهيم التي لم تفرز من التراث ولم تصل لها تطبيقات المسلمين، في عهودهم، وهي من كليات القطعيات القرآنية في مصالح البشر، أكانت متعلقة بالأخلاق أو بالقانون.
أليس من الافتآت أن نُسقط تلك الخيرية أو الوسيطة الرشيدة في الحضارة الغربية، فقط بدعوى أنها لم ترد في التراث، هل هذا التراث يتنزل منزلة الوحي، وهل إعادة نقد تاريخ الحداثة وفلسفتها البائسة ضد الإنسان والروح، تقتضي أن نردّ التاريخ البشري إلى مرجعية التراث في كتب المسلمين، هل التراث هنا مع ما تيقن في فساد بعضه، وخضوع بعضه الآخر لتدخل الاستبداد، ومزاج السياسيين ونفعيتهم، أو ضيق أفق هذا الشيخ أو ذاك، أو عصبيته وصراعاته، أو جهله لنص من الشريعة، فيفرض هذا التراث في مقام الكتاب والسنة الصحيحة؟
كيف! وبعض ما وصلت له هذه الحضارات، متفق مع مقاصد الشريعة في عمران الأرض وتجلية حقوق العباد؟
وهذا لا يعني أن نُسقط كنوز التراث ولا مدارات التفوق في طبقات المذاهب، ولا صور الحضارة الأخلاقية فيها رغم بغي المستبدين، ولا نتجاهل تحريرات العلماء المتفقة مع نهضة الإنسان وكرامته، ولا نُلزم التراث بمصطلحات الغرب الفلسفي، لكن أيضا لا يجوز أن نُعلن إرث هذه الحضارات في التاريخ الإنساني، مساحات معزولة تستفز العقل المسلم، فنرفضها خشية أو كراهية، فهذا ليس من العدل ولا الحكمة.
أما الفريق الآخر المتأثر بالقابلية لمشارطة الفلسفة الغربية، فهو يظن أن تحريرات الجدل في أفق المعرفة الإنسانية، يجب أن تدور في فلك ارسطو وافلاطون، أو تخضع لمشتركات إنجلز وكارل ماركس، أو تكون في هامش جون لوك أو روسو أو ديكارت، أو في نزعة فوكو أو مراجعات هابرماس أو تشارلز تايلور، وإلا فهي ليست فلسفة، ما الذي تفترضه من صحة مطلقة يقينية هذه القاعدة، لكي يُلزم بها عالم الفلسفة المعرفي؟
هنا نحتاج إلى دليل، تماماً كما أنك تقول إن تقريرات الغزالي على الفلسفة، هي مرجع مطلق لا يجوز تجازوه، فكلتا القاعدتين خطأ. أما في جذر الجدل المعاصر، فإن استدعاء فلسفة النقد والنقض، في الحالة الإسلامية الجديدة، تطرح عودة الروح، ويقينيات الوحي، في دلالة الوجود وفي تأثيرها في الذات، وفي سلوك البشر، وهي وإن وردت عند بعض فلاسفة الغرب، غير أنها اكثر عمقاً وأشد تأصيلاً وتحريراً، في الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، فكيف يُطلب من مدرسة نقد مختلفة أن تخضع لمدارات الفلسفة الغربية، من الغرب القديم إلى مدرسة فرانكفورت، حتى جدل نوح هراري.
هذا تعسّفٌ وجهل أيضا في تنظيم مسارات المعرفة، ولك أن تتكتل حول المرجعية الغربية إن كان هذا رأيك، غير أنه انتماء لا يشرع لك حصر الفلسفة به.
إن نموذج عبد الوهاب المسيري أو بيغوفيتش أو مالك بن نبي ليس محصورا بهم، ولكنه يشمل شخصيات أخرى في محاولات نهضة العالم المسلم، ومقدماتهم في سبيل تحرير معرفة مستقلة، تنقذ الإنسان والأوطان، في نبض روحها الإسلامي، لا تفرز المسلم عن غير المسلم، في مصلحة العمران، فهي تقوم على البيان القرآني القطعي لحكمة استخلاف البشر بين الأزمان والأوطان.