الدوحة /قنا/ يعد التحدي الصحي العالمي واحدا من أكبر التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، حيث تتصاعد معدلات الوفيات بسبب الأمراض المعدية سنويا، وذلك وفقا للمعلومات الصادرة عن منظمات دولية متخصصة في مجال الصحة.

ويعود هذا التصاعد إلى تأثيرات الأنشطة البشرية غير المستدامة، التي أدت إلى تغيرات جوهرية في البيئة والمناخ على مستوى الكوكب، وتنتج هذه التغيرات عن انبعاثات الغازات الدفيئة وتدهور البيئة، مما أدى إلى احترار الأرض وزيادة تلوثها، وبالتالي تفاقم الأمراض المعدية وانتشارها في جميع أنحاء العالم.

وتحتل قضايا الصحة العامة ومكافحة الأمراض المعدية مكانة بارزة في جدول أعمال المجتمع الدولي، خاصة في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه البشرية؛ مثل التغير المناخي والعوامل البيئية والتحولات الديموغرافية.

ومع تزايد التوترات البيئية والاجتماعية، يعد التوصل إلى اتفاق دولي للوقاية من الجوائح ومكافحتها أمرا حيويا لضمان صحة وسلامة البشرية.

وفي هذا السياق، عقدت مفاوضات دولية بين الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية؛ بهدف التوصل إلى اتفاق يمثل شبه إجماع عالمي حول كيفية التصدي للجوائح المستقبلية والحد من انتشارها.

ورغم الجهود الحثيثة التي بذلت خلال هذه المفاوضات، فإن عدم تحقيق إجماع بين الدول أدى إلى تمديد المفاوضات، وعدم تحقيق الهدف المنشود في المهلة المحددة.

وقد ترتب على هذا التأخير استمرار التحديات التي تواجه البشرية، حيث تظل الأمراض المعدية تشكل تهديدا خطيرا للصحة العامة على مستوى العالم.

وتعتبر مواجهة هذه التحديات مسؤولية دولية تتطلب تكاتف الجهود، وتنسيق العمل بين الدول والمنظمات الدولية للحد من انتشار الأمراض، وتقديم الرعاية الصحية اللازمة للمصابين.

وكان من المقرر أن تتوصل الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية، وهم جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إلى اتفاق يمثل شبه إجماع عالمي يرسم ملامح عامة لكيفية الوقاية من الأمراض والجوائح التي قد تصيب البشرية. هذا الاتفاق المنتظر، والذي لم يتحقق، كان مطلوبا قبل انعقاد الجمعية العالمية للصحة في 27 مايو الحالي بجنيف.

ووفقا للبيان الصادر من منظمة الصحة العالمية، فإن الاجتماع الذي لم يتم فيه التوصل لاتفاق حول الوقاية من الأمراض والاستجابة لها على المستوى العالمي، شهد مناقشة العلاقة بين الوقاية من الجوائح وفلسفة "الصحة الواحدة" التي تأخذ في الاعتبار البشر والحيوانات والبيئة.

كما تناول المفاوضون نقطة حاسمة تتعلق بمن سيتحمل تكاليف تعزيز قدرات الدول على الاستعداد للجوائح والاستجابة لها، واتفق المفاوضون على استئناف المناقشات في الأسابيع المقبلة لتعزيز الجهود في هذا الصدد. وسيشمل تداول المناقشات كيفية إقرار نظام عالمي جديد للوصول إلى مسببات الأمراض وتقاسم الفوائد من البحوث، بما في ذلك اللقاحات والعلاجات ووسائل التشخيص الأخرى.

وقد تجسدت تجربة العالم الهائلة التي خلفتها جائحة /كوفيد-19/ في ملايين الوفيات والمعاناة والظلم والأضرار الاقتصادية، مما دفع الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية إلى إطلاق مشروع طموح للتصدي للجوائح المستقبلية، وتعزيز الاستعداد العلمي لمواجهتها.

وجاء هذا الاهتمام بالوقاية من الجوائح بعد الإفراط الهائل في استخدام الموارد الطبيعية والتصرفات غير المستدامة، مما أدى إلى تغيرات مناخية قاسية وعدم توازن بيئي.

وعلى الرغم من ذلك، يعرب تيدروس أدهانوم غيبريسوس، مدير منظمة الصحة العالمية، عن تفاؤله بشأن التوصل لاتفاق يقر رسميا خلال الاجتماع السنوي المقبل للدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية، حيث قال: "يعملون لساعات طويلة لإيجاد أرضية مشتركة بحسن نية، لصالح شعوب العالم".

وأكد الأمين العام التزام الدول بالاستمرار في مساعيها والوفاء بالمهمة الإنسانية التي تتمثل في التصدي للتحديات الصحية العالمية، معبرا عن تقديره لـ"العزم الذي أبدته جميع البلدان على مواصلة عملها والوفاء بالمهمة التي بدأتها".

وتعد التحديات الصحية العالمية، لا سيما المتعلقة بالوقاية من الجوائح ومكافحتها، من أبرز الأولويات التي تواجه المجتمع الدولي في الوقت الراهن. ومع انتشار جائحة /كوفيد-19/ وتداعياتها الوخيمة على الصحة العامة والاقتصاد العالمي، كان من المأمول أن تتوصل الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية إلى اتفاق شامل يرسم ملامح استراتيجية عالمية للتصدي للجوائح المستقبلية والحد من آثارها.

ويأتي فشل المفاوضات في وقت حرج، حيث يتزايد القلق من احتمالية حدوث جوائح جديدة في المستقبل نتيجة للتغيرات المناخية والاضطرابات البيئية، مما يبرز أهمية وضع استراتيجيات عالمية متكاملة للوقاية والتحضير.

ويرى بيدرو فيلاردي، منسق الإنصاف في الرعاية الصحية بمنظمة الخدمات العامة الدولية، أنه يجب أيضا حماية العاملين في مجال الصحة، الذين يتعاملون مع المرضى المحتملين، وبخلاف ذلك فإن "حياة الطواقم التي نمثلها ستكون مهددة مرة أخرى" خلال أي جائحة مقبلة، تماما كما حدث خلال كوفيد-19، معتبرا أنه من "المشين" أن يكون من الصعب إدراج إشارة في النص النهائي إلى الصحة العقلية لمقدمي الرعاية الصحية. وبحسب المتابعين المهتمين بالجوائح والأمراض المنقولة، فإن الخلافات الرئيسية تتعلق بإمكانية الوصول إلى مسببات الأمراض لأغراض البحث، وعموما إلى وسائل إنتاج الفحوص والعلاجات واللقاحات، إضافة إلى توزيعها بإنصاف.

وتقول لورين باريموير العضو في منظمة "بيبلز هيلث موفمنت" غير الحكومية والأستاذة في جامعة الكاب بجنوب إفريقيا: إن القارة السوداء -على سبيل المثال- تعرضت "للتهميش الشديد" في هذه المجالات خلال الجائحة الأخيرة.

وأضافت: "إن المعاهدة كما هي حاليا لن تصحح أيا من هذه الأمور"، مشددة على أن جزءا كبيرا من النص غير ملزم في صيغته الحالية حول نقل التكنولوجيا إلى البلدان النامية.

وأوضحت أن "المعاهدة تفرض التزامات ومراقبة جديدة وشديدة للغاية (لمسببات الأمراض) على البلدان الإفريقية دون أي وعد واضح فيما يتعلق بتوفير الأموال" لهذه الغاية".

وتشير التقارير العلمية إلى أن المناخات الدافئة والرطبة تسهم في زيادة انتشار الأنواع المحملة للأمراض مثل البعوض، في حين يزيد فقدان الموارد الطبيعية مثل الحشرات والحيوانات من احتمالية أن تصبح حاملة للأمراض في المناطق التي يتواجد فيها البشر بكثافة.

وكشفت دراسة جديدة نشرت في مجلة نيتشر هذا الأسبوع عن تعقيد التأثيرات المرتبطة بتغير المناخ، حيث يؤدي ذلك إلى زيادة انتقال بعض الأمراض وتغير نمط انتقال الأمراض الأخرى. واعتبرت الدراسة أن فقدان التنوع البيولوجي يلعب دورا كبيرا في زيادة الأمراض المعدية.

وفي هذا البحث، قام الباحثون بتحليل آلاف المجموعات من البيانات بدراسات سابقة لفهم كيفية تأثير فقدان التنوع البيولوجي وتغير المناخ والتلوث الكيميائي على الإنسان والحيوانات والنباتات، واستنتجوا أن فقدان التنوع البيولوجي كان العامل الأكثر تأثيرا، يليه تغير المناخ، ثم إدخال أنواع جديدة.

وأوضح المؤلف الرئيسي للبحث جيسون رور، أستاذ العلوم البيولوجية في جامعة نوتردام، أن الطفيليات تستهدف الأنواع الأكثر وفرة، والتي تقدم عددا أكبر من المضيفين المحتملين للأمراض، وأضاف أن الأنواع الموجودة بأعداد كبيرة من المرجح أن "تنمو وتتكاثر وتنتشر للدفاع ضد الطفيليات.. وإذا كانت هناك أجيال جديدة من الطفيليات أو من الأنواع الناقلة للأمراض، قد يكون هناك المزيد من الأمراض".

وبهذا يعتبر فقدان التنوع البيولوجي وتغيرات المناخ عاملين قد يزيدان من انتشار الأمراض المعدية؛ لذا ينبغي على المجتمع الدولي تبني استراتيجيات فعالة للحفاظ على التنوع البيولوجي والتصدي لتغيرات المناخ؛ من أجل الحد من انتشار الأمراض المعدية.

في هذا السياق، ينبغي تعزيز التعاون الدولي والبحوث العلمية لتطوير استراتيجيات شاملة لمكافحة هذه التحديات الصحية العالمية، وللتصدي لآثارها السلبية على الصحة العامة.

ويلاحظ المراقبون للشأن الصحي العالمي أن التوافق التاريخي بشأن الحماية من الجوائح ومكافحتها لا يزال غير مؤكد، على الرغم من المفاوضات الطويلة والمكثفة التي استمرت لعامين.

ويبدو أن الهوة بين الدول الأعضاء في شمال وجنوب الكرة الأرضية لا تزال واسعة، ومركزة حول قضايا مالية وصناعة اللقاحات الواقية، ويثير هذا الوضع تساؤلات حول إمكانية تجاوز الخلافات خلال الاجتماعات المقبلة للمنظمة... فهل سيتمكن المشاركون في هذه الاجتماعات من تجاوز العقبات ووضع تفاهم يخدم مصلحة البشرية بشكل عام، ويعزز الجهود العالمية في مجال الصحة العامة؟