إنَّ من إفرازات العدوان الوحشي الجاري على قطاع غزة منذ أكثر من سبعة أشهر، أنّه ساهم بشكل متقدم بحسم معركة السرديات بحقيقة أحداث حرب عام 1948، وتفاصيل ما جرى وأدى لنكبة الشعب الفلسطيني وتشريده. فقد حرص طرفا الصراع؛ الإسرائيلي المعتدي والفلسطيني الضحية، طوال ما يقرب من ثمانية عقود على تقديم روايتيهما المتناقضتين للعالم لإثبات عدالة قضيتيهما المختلفتين.

وقد تنوّعت مسارح السجال حول مضامين الحجتين وكشف الحقيقة، على المنصات والمنابر بالمستوى الدولي سواء السياسية منها والدبلوماسية والقانونية أو الأكاديمية والثقافية والإعلامية والفنية والاجتماعية والنقابية، وكل مساحة متاحة للطرفين لطرح حجتيهما لكسب أنصار أو لتسجيل نقاط وتحقيق انتصارات جزئية متفاوتة في حجمها وأثرها، واتسع الصراع بتحزّب مناصرين لكليهما على المستويين: الرسمي والشعبي، وتحوّلوا إلى فاعلين في اتجاهين مضادَّين، بما يمكن أن نَصِفه بتشكُّل معسكرين عالميين تعاظَم فعلهما مع تقادُم السنين وتطوُّر الأحداث.

لقد حرص الاحتلال الإسرائيلي على التشبّث برواية أنه ليس مسؤولًا عن وقوع النكبة عام 1948، سواء من ناحية إنكار ارتكاب مجازر ومذابح بحق الشعب الفلسطيني على امتداد خريطة فلسطين، أو من ناحية تحمُّل مسؤولية تهجير الشعب الفلسطيني من مدنه وقراه وبلداته. ويعيد سبب تهجيره بعيدًا عنه إلى عوامل ذاتية وعربية. واستفاد الاحتلال على مدى عقود قليلة، أعقبت نكبة 48، من غياب التوثيق وغياب إعلام جدي وموضوعي في تلك الفترة، وكذلك من تبعثُر الشعب الفلسطيني على الطرف المضاد وضعفه وعدم تماسكه، وغياب الإسناد العربي الذي يُفترض أن يكون داعمًا له في دحض ادعاءات الطرف المعتدي.

نفوذ الاحتلال حول العالم والدعم شبه المطلق من الدول الغربية على جانبي المحيط الأطلسي، وتبني هذا المعسكر رواية الاحتلال والعمل على تموضُعها في العقل والضمير الجمعي الشعبي الغربي، مكّن ذلك أكاذيب هذه الرواية من أن تسود وتعشعش بشكل مطلق لفترة ممتدة طوال خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته، حتى إن صورة الاحتلال في المخيال الغربي كانت أنه هو الضحية أمام طوفان عداء عربي وإرهاب فلسطيني مستحكم.

وقد تجد في بعض الكتب الأكاديمية الجامعية في الدول الغربية أن اللاجئين والمهجّرين هم الإسرائيليون، وأن دولة إسرائيل هي تحت الاحتلال، وحرص الغرب الداعم لدولة الاحتلال على الحيلولة دون حضور الرواية الفلسطينية أو إعطائِها الفرصة لتجابه الطرف الآخر.

الحضور المُعتبر للسردية الفلسطينية في نهاية عقود القرن الماضي وبداية القرن الحالي، بدأ لعوامل عديدة ذاتية وإقليمية ودولية، وكذلك لاستمرار السلوك الإجرامي لدولة الاحتلال الذي واكبه تطور وانفتاح الإعلام. وبالرغم من ذلك، ظلَّ الغالب الأوروبي والرأي العام العالمي بقدرٍ واضحٍ غائبين عن الحقائق المُثبتة وعن تفاصيل النكبة وممارسات الاحتلال فيما بعدها. ومن أهم أسباب ذلك، تماسُك القوى الغربية في دوام دعم دولة الاحتلال وتفوُّقها، والعمل على توظيف الأدوات النافذة لدى الغرب الأوروبي والولايات المتحدة ومن يدور في فلكهما؛ كي تسود رواية دولة الاحتلال أمام العالم.

لكنّ إصرار الشعب الفلسطيني، طوال العقود الماضية، على أن تبقى قضيته حية وبأحرفها الأولى وعدم طمسها وتغييبها وإنهائها، تحقّقَ رغم شراسة الاحتلال وعظم المؤامرة الدولية والتحديات الجسيمة والتضحيات، وساهمت ديمومة القضية والحضور القوي للمطالبة بالحقوق في تحقيق اختراقات بالتدريج في حضور الرواية الفلسطينية في الضمير العالمي.

لقد جاءت الأحداث الجسام منذ شهر أكتوبر/‏ تشرين الأول من العام الماضي وحتى الشهر الجاري مايو/‏ أيار، وحلول الذكرى 76 للنكبة، وارتكاب دولة الاحتلال جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والقتل الممنهج، لتكشف جرائم الاحتلال بشكل ملموس وعلى مرأى من العالم أجمع وبتوثيق دقيق غير مسبوق. كل ذلك كشف حقيقة ما جرى حين وقعت نكبة 48، وأن الطبيعة الإجرامية المتأصلة لدولة الاحتلال ليست وليدة هذه الأيام.

وما يدور الآن من أحداث هو دليل دامغ على وقوع مجازر دير ياسين والدوايمة ومعها 90 مجزرة على طول خريطة فلسطين التاريخية وعرضها، ارتقى معها ما لا يقل عن 15 ألف شهيد (والرقمان حسب توثيق المؤرخ الدكتور سلمان أبوستة)، هذا رغم عظمه أقل بكثير من جرائم الإبادة الجماعية والتي ترتكب خلال عامَي 2023 و2024، حيث قَتل الاحتلال ما يزيد عن 35 ألف شهيد فلسطيني، يضاف لهم آلاف المفقودين تحت الأنقاض منذ السابع من أكتوبر/‏ تشرين الأول الماضي حتى حلول الذكرى 76 للنكبة في منتصف شهر مايو/‏ أيار الجاري، وتم توثيق أكثر من ثلاثة آلاف مجزرة ارتكبت بشكل وحشي ساديّ وبدم بارد. ومع الشهداء هناك ما يقترب من 100 ألف جريح، والأغلبية الساحقة من الضحايا نساء وأطفال.

فأضحت حجج الشعب الفلسطيني عبر التاريخ لا تحتاج أدلّة مع هكذا مشاهد يراها العالم ويعايش تفاصيلها، فتكشفت الحقائق بما لا يدع مجالًا للإنكار. وهذا ما أدَّى إلى انقلاب شعوب العالم على دولة الاحتلال.

إن الأحداث الجارية في فلسطين وخصوصًا العدوان على غزة والبيئة المحيطة بها على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي ومن أهمها الإصرار والوعي الشعبي الفلسطيني.، وكذا الوضع في دولة الاحتلال، ترجّحُ صعوبة تكرار سيناريو نكبة 1948، وأنه رغم الجراح والآلام والخسائر في جسم الشعب الفلسطيني، فإنه بات أقرب لاسترجاع حقوقه وعلى رأسها العودة إلى قراه ومدنه التي جرى تهجيره منها، وهذا كله يأتي في إطار القانون الدولي.{ الجزيرة نت