كل عدل يأتي من الله والله وحده هو مصدره «جان جاك روسو».
بعد ترصيف ضرورات التعاقد الاجتماعي يعبر روسو، إلى سيادة القانون، واستفتاح روسو في هذا الفصل بالعدل الإلهي مداره، إلى روح فلسفته الدائمة في البحث عن مصدر الطبيعة الأعلى، وهو الله الذي فطر الناس وهو أعلم بحالهم، وهي استمرار لعقيدة روسو الراسخة، في أنّ ما يُدرك من الطبيعة، أي (فطرة الله) هو الأصل وهو مرجع الخير، لكنه يُعقّب على ذلك بتحفظه القديم، كيف نُعمل قانون الله (المفقود)، الذي لو وجدناه لما احتجنا إلى حكومة، هذا هو تعبيره.
في الفلسفة الإسلامية، والتأمل في تاريخ التشريع الإسلامي، نجد أن كليات النظام القانوني العام قد حُرّرت، في مصادر التشريع، غير أن هذه الكليات الإلهية مَنحت مساحة ليست قليلة للعقل البشري، كي يدون قانونه وفقاً لقواعد الوحي، وهو قانون الله، وأن الحكم بذاته هو متطلب بشري، لا بد من قيامه لإنفاذ عدالة القانون، هنا يتضح الفارق والتتمة في تساؤل روسو، أين نظام الله؟
وروسو لا يَعُد النظام الكنسي نظاماً إلهياً، بحسب سياقات تقريراته المتكررة، بل يراه قانوناً لاهوتيا مزيفاً، خضع لتحالفات المصلحة، بين الملك والقسيس، ولذلك قال لو كنا نعرف أن نتلقى (قانون الله) لم نلجأ لقانون آخر.
ولا نُدرج التجربة السياسية المنحرفة في تاريخ المسلمين دليلاً، بل قد أصابها في بعض فتراتها ما أصاب الكنيسة، غير أن الوحي وإلهامه، والتجارب التطبيقية الراشدة، منذ عهد الخلفاء الراشدين، تدلل على هذه المصداقية والعدالة.
ويرى روسو أن عدم وجود قاهر طبيعي، يحمل الناس على الخير، يُشكل فراغاُ يزكّى فيه الخبيث، ويُنال من الطيب، ولذلك لا بد من وضع القانون التنفيذي التفصيلي، لتمكين الإرادة العامة، التي قرّر سلطانها في العقد الاجتماعي، وضع آلة تنفيذية، يستخدمها السيد المفوض، لإخراج الناس من صراع الأغراض الخاصة، إلى الغرض العام المشترك، هنا أيضاً يعود روسو لمأزق سبق أن ناقشناه، وهو أن الفطرة المرعية بالوحي، والإيضاح في النص الديني المنزل، أقدر على ضبط مساحات الحقوق في الغرض العام، ويبقى للناس مساحتهم في الغرض الخاص، دون جناية أو تطفيف، وهذا صحيح لكن يحتاج إلى ضابط أخلاقي فوق البشر.
ومبرر روسو هنا، هنا أن الأغراض الخاصة أجزاء، وأن جميعها يمثل المجموع العام للأمة، وهو كل الموجود في الإرادة العامة، فهنا الخضوع للقانون بعد تحديد المشترك، يمثل كل الطبقات، والموجود المطلق للشعب بحسب تعبير روسو، فيطمئن الأفراد للتحاكم لهذا القانون، وهذا أيضا ليس شرطاً في تحققه، كما ناقشناه سابقاً، إذ ان مجموع الأجزاء ومجموع أجزاء أخرى، قد تتناقض أغراضهم، حتى لو صُوّتَ للقانون بالأغلبية.
لكنه يؤكد على شرعية المرجع السيادي للقانون، وان جهة الاعتماد ليست السيد التنفيذي وهو الأمير، انما السيد المطلق وهي الإرادة العامة، التي حددت المشتركات لأعضاء الدولة، في حين يفرز روسو القوانين التي يُصدرها الأمير (الرئيس أو الحكومة) وينزع عنها مرتبة القانون السيادي، وهذه تراتبية مهمة في إعطاء مساحة المعارضة، في ظل مرجعية القانون الأعلى، أي البنود الدستورية التي يصوت لها الشعب، لكن ضابط هذا الأمر في المؤسسات الجمهورية صعب.
وإن كان روسو أكد على أن النظام الجمهوري، يُقصدُ به اعلاء الإرادة العامة، فإن خضع لها الملك، كان هذا نظاما جمهورياً، وإن كانت الدولة ملكية، وهو ما أطلق عليه فيما بعد الملكية الدستورية.
في نفس الوقت يُشكك روسو في ضمان هذه الشروط العليا، لإدراك الخير من قبل الشعب، فالأصل هنا هي أنها شراكة مدنية، للوصول إلى الخير المطلق لصالح الرعية والدولة، لكنه يبعث أسئلة متعددة عن الضابط بين كل هذه المستويات، وعما يتحصل من نتائج في توزيع السطات.
ويؤكد على أن الشعب يحتاج لمن يُبصّره، ويرشده إلى معالم الخير التي يحققها القانون، أو القانون المضاد، هذه البصيرة تشير إلى ما نؤكده من دور الضمير الديني، والحساب الأخروي، وتفعيله في ذات الحاكم، أو في النخبة التقية التي تُقدّم له النصح، حتى لا يسرف على الرعية، ولا ينقض حق الإرادة العامة، وهذا النموذج الإسلامي في اعتقادنا يغطي الفراغ الذي تسائل عنه روسو.
هذا الجدل الذي بعثه روسو بنفسه، هدف منه فتح مساحات النقاش، واحتفظ لنفسه فيما يبدو، بموقع التبرئة لما يمكن أن تنتهي له، بعض النماذج التي تستغل القانون الدستوري خارج مصلحة وخير المجتمع الشامل، في أوروبا وخارجه.