تصادفنا بين حين وآخر حكايات مثيرة تكشف عن غرائب النفس البشرية ومدى استحكام الحقد عليها إلى درجة تصل أحيانا إلى الدناءة والخسة.
تعود القصة التالية إلى فبراير من عام 1987 عندما قُتل مائة وخمسة عشر مسافرا في تفجير مروع لطائرة الخطوط الكورية الجنوبية KAL 858 بعد أن أقلعت من مطار بغداد لتسقط فوق بحر أندمان بين ماينمار وتايلاند وهي في طريقها إلى العاصمة الكورية الجنوبية سيول. وبعد أن تكشفت خيوط التحقيق تبين أن الأحقاد كانت وراء تلك الفاجعة.
ففي سبتمبر 1981 عهدت اللجنة الأولمبية الدولية إلى كوريا الجنوبية تنظيم دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، والتي نظمتها سيول بالفعل في سبتمبر 1988. وعد الفوز في حينه نجاحا كبيرا أشعل غيرة جارتها وأختها اللدود كوريا الشمالية، خاصة أن تلك الدورة الأولمبية كانت الثانية التي تستضيفها القارة الآسيوية بعد دورة طوكيو في 1964. لم يحتمل قادة كوريا الشمالية أن تكون كوريا الجنوبية محطا لأنظار العالم وقبلة للرياضيين والإعلاميين والساسة والشركات الدولية الكبرى، وعليه لم تدخر وسيلة لإفساد الحدث إلا ولجأت إليها، بما في ذلك الوسائل العنيفة.
بدأت الكارثة في التاسع والعشرين من نوفمبر 1987، أي قبل أقل من عام من افتتاح الدورة، عندما استعمل راكبان كوريان شماليان جوازي سفر يابانيين مزورين ليسافرا من بغداد على متن رحلة الخطوط الجوية الكورية المنكوبة المتجهة إلى سيول. لكنهما غادرا الرحلة بموجب تذكرتيهما في أبوظبي عندما توقفت لكي تقل مزيدا من الركاب. وعلى متن الطائرة أخفت «كيم هيون هوي» بالاتفاق مع شريكها «كيم سونج» قنبلة مفخخة في جهاز راديو صغير تركاه داخل خزانة الحقائب. وبعد هبوطهما في أبوظبي اتجها إلى البحرين. وهناك ألقي القبض عليهما لما أبلغت سلطات كوريا الجنوبية فور وقوع الحادث فوق بحر أندمان السلطات البحرينية بشكها في هويتهما.
وعندما ألقت سلطات الأمن البحرينية القبض عليهما، أخرج «كيم سيونج» سيجارة وضعها في فمه فسقط منتحرا ليتبين فيما بعد أنها كانت تحوي مادة السيانيد السامة. ولما حاولت «كيم هيون هوي» الانتحار بنفس الطريقة انتزع رجل أمن بحريني السيجارة من فمها لتبدأ خطوط قصة معقدة تتكشف.
تبين أن السيدة «كيم هيون هوي» ليست يابانية وأنها والسيد «كيم سونج» كانا عميلين لجهاز المخابرات في كوريا الشمالية وأنهما يقفان وراء تفجير الطائرة. وعندما وصلت «كيم هيون هوي» إلى سيول في ديسمبر 1987 برفقة عدد من رجال الأمن جرى التحقيق معها وصدر عليها حكم بالإعدام في مارس 1989، أي بعد انتهاء دورة الألعاب الأولمبية بعدة أشهر. لكن الرئيس الكوري الجنوبي وقتها «روه تاوو» أصدر عفوا عنها معتبرا أنها تعرضت لعملية غسيل مخ من قبل حكومة كوريا الشمالية، في موقف نجحت سيول في توظيفه بحنكة لكي تبرز الوجه البوليسي السلطوي العنيف لخصمتها الشمالية أمام العالم.
وظلت «كيم هيون هوي» تعيش في كوريا الجنوبية، بل وتزوجت أحد أفراد الأمن الكوريين الجنوبيين والذي كان يلازمها منذ القبض عليها وأنجبت منه طفلين ونشرت كتابا بعنوان «دموع روحي» سجلت فيه مأساة إسقاط الطائرة والدوافع التي حركتها للمشاركة فيها مسلطة الضوء على غسيل المخ الذي تعرضت له ثم تحررها من أوهام الدعاية الفجة للنظام الكوري الشمالي ليتغير مسار حياتها منذ ذلك الحادث.
كانت «كيم هيون هوي» ابنة لسفير كوري شمالي سابق عاشت معه في صغرها لفترة في كوبا ثم عادت إلى بيونغ يانغ لتلتحق بإحدى الجامعات هناك لتدرس اللغة اليابانية. وكان أن وجدت فيها قيادات حزب العمال الكوري الحاكم في بيونغ يانغ خامة ممكنة للتجنيد، فجندتها ودربتها لثماني سنوات على أعمال الجاسوسية والاستخبارات. ثم تم تكليفها برفقة زميلها «كيم سونج» بمهمة تفجير الطائرة في فبراير من عام 1987 بأمر مكتوب، كما شرحت في كتابها، من رئيس كوريا الشمالية وقتها «كيم إيل سونج». وقد نفذت الأمر، كما وصفت، لأنها كانت روبوتا في يد «كيم إيل سونج» ولأنها وشريكها اقتنعا بأن تفجير الطائرة سيخدم مصلحة كوريا الشمالية في وقف، أو على أقل تقدير تعطيل دورة الألعاب الأولمبية التي كانت ستحتضنها كوريا الجنوبية في 1988 وكانت تثير حنقا شديدا لقادة النظام الشيوعي.
العجيب في القصة أن كوريا الجنوبية نظمت بعد ثلاثين عاما دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في 2018 ووافقت على مشاركة وفد من كوريا الشمالية في طابور رياضي واحد يضم رياضيين من البلدين، وهو ما اعترضت عليه السيدة «كيم هيون هوي» التي ظلت تصر على أن مشاركة كوريا الشمالية في دورة ألعاب 2018 لم تكن سوى خدعة لا يمكن أن تخفي بها أحقادها أو تتستر من خلالها على جريمتها التي نفذتها قبل ثلاثين عاما.
من المؤكد أن دوافع البشر معقدة وأن دوافع الدول أكثر تعقيدا، وأن حساباتها عندما تتشدد وعندما تعفو أشد وأكثر تعقيدا. فمن يلعب لعبة الأمم يأتي بتصرفات تخالف المثل والمبادئ كما قد لا يقبلها العقل، لكنه مع ذلك يأتي بها طالما تحقق ما يراها مصلحة له. ولهذا فإن لغة المصالح هي أصعب لغة في الوجود. كل مفردة خشنة فيها كالتآمر والقتل والتفجير إلا وتوضع بجانب مفردات أخرى ناعمة كالتفاوض والمشاركة لتصنع جملاً ومشاهد سياسية تعد جنوناً بالحسابات الأخلاقية الفردية. لكن ذلك هو حال العلاقات الدولية تمتزج فيها التناقضات ولا تعيش إلى بجانب بعضها بل وتختلط إلى درجة تستحيل أحيانا على التصديق.