+ A
A -
محمود بركة كاتب فلسطيني

قدّمت الحالة في الحركة الفلسطينية الأسيرة أساطير من المعجزات والإبداع، في الكتابة، وتأليف الكتب والمقالات في زمن «موازٍ»، في حالة تواصُل وتشابُك مع العالم الخارجي، ومع الحالة السياسية الفلسطينية والفكرية التي يعيشها الشعب في فلسطين المحتلة والشتات.

لقد أنتج وليد دقة، الأسير في سجون الاحتلال، منذ سنة 1986، الكتب، والدراسات، والمقالات النقدية والفكرية، وساهم معرفيا في فهم تجربة السجن ومقاومتها، ومن أبرز ما أصدره: «الزمن الموازي»، و«يوميات المقاومة في مخيم جنين»، و«صهر الوعي»، و«حكاية سرّ الزيت»، و«حكاية سرّ السيف» تطبيقا لنظرية الفاعل الشهيد، والشاهد منذ عقود على سجن يضيق بعد أن غاب الجسد.

ويكتب عبد الرحيم الشيخ عن الأسرى الشهداء في مسرحية وليد دقة «الشهداء يعودون إلى رام الله»، ويقول: «فيذكّرونه بأنهم أطياف لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون حتى يُدفنون، فتتحلل الأجساد وتتحرر الأرواح»، وهنا وليد دقة يعود مع عودة الشهداء. لكن إلى أين؟ إلى ذاكرة معرفية، يحاول الاحتلال تفكيكها؛ إلى فلسطين المحتلة لتحرير المعرفة الفلسطينية، التي كرس فيها الاحتلال الظلم الاستعماري. ويعود الشهيد الأسير وليد دقة ابن باقة الغربية في المثلث الفلسطيني المحتل، فالشهداء يعودون، ولا يموتون، «وقد فتّشوا صدره فلم يجدوا غير قلبه، وقد فتّشوا قلبه فلم يجدوا غير شعبه، وقد فتّشوا صوته فلم يجدوا غير حزنه، وقد فتّشوا حزنه فلم يجدوا غير سجنه، وقد فتّشوا سجنه فلم يجدوا غير أنفسهم في القيود».

وتعطي نصوص وأفكار وليد دقة في قراءتها الدائريّة المستمرة سُبُلاً لمواجهة عدو ينتهك قانونية الحياة والموت، وتضيء على ذاكرة المكان والزمن الفلسطيني الأسير، الذي «يعيش الموت معلقا، والدفن غاية، والقبر أمنية». إنها نضالات تغرس كتابات وليد دقة ذاكرة في اليافعين، بعيدا عن شبكة النسيان، وتؤسس لدولة الحرية، وذاكرة الانتباه. لقد كتب وليد ليصعد بالكتابة إلى المسرح، من سجنه الرهيب، صانعا من الصمت حكايات، يقودها الشهداء الأسرى، استكمالا لمسيرة كمال أبو وعر، وأنيس دولة، وفارس بارود، وداود الزبيدي، وسامي العمور، وبسام السايح.

يكتب ناصر أبو سرور، الأسير الكاتب: «أنا قلبي وضيق المكان»، ويكتب باسم خندقجي في «قناع بلون السماء» أن «زمن المخيم هو زمن السجن»، ويسافر في زمن آخر، يبحث عن فلسطين التاريخية، فالزمن واحد في رحلة الفلسطيني وسيرته، ويمرّ زمن تقسيم فلسطين إلى اليوم، حيث تعيش غزة معركة مع العدو، منذ أكثر من 190 يوما، هي الأشد في التاريخ الفلسطيني الصعب. وقبل أن تكتمل مسرحية «الشهداء يعودون إلى رام الله»، يرثي وليد دقة نصّه، ويرثي شهداء فلسطين، وتكتمل مسيرة الشهداء المفتوحة، فيطرقون جدران السجن، والحصار، وسنوات الانتظار الطويل.

ميلاد وليد دقة؛ هي ابنةُ الشهيد والأسير وليد دقة، والمناضلة الوطنية سناء أحمد سلامة، اللذَين تزوّجا في السجن – كلاًّ في سجنه - خلف قضبان العدو سنة 1999، ولم تتِح لهما السلطات الصهيونية فرصة الإنجاب، فوُلدت في الناصرة المحتلّة في 3 شباط /‏ فبراير 2020، من نطفة مُحرّرة من سجون الاحتلال، ليصبح المكان: أنا وهي وزهور العالم. وفي مقدمة قصير من سيرة وليد دقة النضالية والإنسانية والوطنية الأدبية، تعطي كتاباته من داخل السجن دروسا في الوعي الحي لزمن السجن وخارجه، بين النظرية والتطبيق، في تجارب السعي نحو الحرية.

ويكتب وليد دقة من سجن جلبوع الاستعماري في سنة 2009: «لم يعد الجسد الأسير في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدَف مباشرة، إنما المستهدف هو الروح والعقل». ويصل الشهيد أبو ميلاد إلى الروايات السجينة في أدب السجون، ويقارنها بحالة الأسير الفلسطيني، بينما تحاول جيوش السجن وسلطاته إعادة صهره، وعلى الرغم من الفشل ومحاولاتهم البائسة، فإن الأسير يصل شهيدا، ليقضي سنوات سجنه وهو ميت بين الشاهد والشهيد، ويطلق وليد دقة على هذا النوع من التعذيب «القمع الحدثوي»، الذي يمرّ بمئات المشاهد، والأفعال التي تعرضه لاعتقال الروح والأدمغة، مع فكرة اعتقال الجسد والإرادة. ويقف اليوم في هذه الليلة وليد دقة في صدارة الشهداء المحتجزة جثامينهم داخل ثلاجات الاحتلال وصقيعها، في مسيرة يقودها شهداء غزة لتحقق القول الوطني «من النهر إلى البحر».

الشاعر يُرثى بشاعر، والبطل يُرثى ببطل، ويمكن للمفكر الأسير والكاتب أن يكتب ويفكر ويرسم الأزمنة وسنوات الأمل والانتظار في لوحات أنجزها في مراحل سنواته في السجون والزنازين الإسرائيلية، وستعيش بدورها حتى الأبدية. ونستذكر نصا في «رسائل السجن» لأنطونيو غرامشي المهربة، لنختار من زمن بعيد ماضٍ لم ينتهِ بعد، كرسالة متحررة من السجن بالهروب، وكقصيدة تمثل لسان حالنا بعد وليد دقة: «سأرحل، وأترككَ في هذا المساء الذي، على الرغم من حزنه، فهو ينزلُ علينا عذباً نحن الأحياء». وفي هذا المقام، يمكن أن نستذكر نصا من مراسلات روزا لوكسمبورغ من السجن: «السماء الزرقاء النقيّة كطفل، السماء حيث تدندن الأمواج، السماء روحك، آه اتركني أتغلغل فيها بروحي وأحاسيسي أغوص في اللازورد العميق». الرثاء في اللغة عاجز عن الوصف والكلام، وليس بالرثاء وحده ينهض المرء، بل أيضا بقراءة ما كتبه وليد دقة، وما عاش من أجله وقضى نحوه؛ الوطن، والهوية، والأرض. كتبت المناضلة سناء سلامة، زوجة الشهيد الأسير وليد دقة، بياناً في 11 نيسان /‏ أبريل 2024، تروي فيه مهاجمة قوات الاحتلال خيمة العزاء في باقة الغربية المحتلة، وتعلن أن «بيت العائلة مفتوح للاستقبال اعتبارا من اليوم الأول لاستشهاده، وبيت الأسير الشهيد وليد سيظلّ مفتوحا لأهله، ومحبيه، وأبناء شعبه، وسنبقى على عهده، ونردد صرخته الوطنية والأخلاقية العالية والإنسانية، حرّروا الأسرى الشهداء، حرروا الشهداء الأسرى».

علينا العودة إلى كتابات وليد دقة، وهي كثيرة ومتعددة، كسنوات أَسْرِه الطويلة، لنقرأ وليد، منذ المرة الأولى التي كتب فيها حتى صوته الأخير، لأن سنواته على سرير المرض في مستشفيات السجون طويلة، كان يصرخ فيها صراخا يشبه صراخ فارس بارود قبل الرحيل في الليالي الأخيرة.

الليلة، في 7 نيسان /‏ أبريل 2024، وغزة تصرخ على مرأى الكون وتناضل، يلتحق وليد دقة بشهداء فلسطين. ويبقى وليد نمر دقة شهيدا صاعدا حتى السماء إلى فلسطين الحلم، والعودة، والحرية، وفلسطين العائدة والأكيدة من النصر القادم.

copy short url   نسخ
20/05/2024
15