دُعيت إلى أمسية موسيقية رائعة في دار الأوبرا بالمؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا) يوم الأحد الماضي. لساعتين كاملتين استمعت واستمتعت بـ «نغم يمني في الدوحة»، وهو العنوان الذي انعقدت تحته تلك الأمسية. كل شيء فيها كان جميلاً بل رائعاً، من معمار المسرح وبهاء المكان إلى أداء المطربين والعازفين إلى التنظيم وتفاعل الحاضرين. كنت أتوقعها ليلة ممتعة، فجاءت المتعة أضعاف ما توقعت.
ولأن الطبع يغلب التطبع، فلم يغب عني وأنا جالس أسمع وأستمتع، أن أحلل وأتعلم مما يدور حولي. دققت في خشبة المسرح، وفي وجوه الجالسين عليها وفي كل شيء رأيته أمامي. وبعد دقيقتين أو ثلاث همست في أذن صديقي الجالس على يساري وقلت له: «ليس أمامنا خيار إلا التنوع». فقد رأيت على خشبة المسرح ما يثير التعجب ويدعو في الوقت نفسه إلى الإعجاب.
فقد دخل العازفون والمطربون اليمنيون وهم يرتدون ملابسهم التقليدية. رأيت الثوب والعمامة والنعال والجنبية. ورأيتهم يحملون آلاتهم الموسيقية التقليدية الغنّاء كالقنبوس والعود والقصبة. ثم تعطفوا علينا فغنوا ألواناً بديعة من الموسيقى اليمنية الثرية. لكن المسرح لم يكن لهم وحدهم، وإنما اصطف خلفهم وتحلق حولهم عدد كبير من عازفي أوركسترا قطر الفلهارمونية. كان الرجال منهم يلبسون البابيون والسموكن، بينما ارتدت العازفات فساتينهن السوداء الطويلة. ومثلما حمل المشاركون اليمنيون آلاتهم الشرقية الأصيلة، دخل الفلهارمنيون بآلاتهم الغربية المعروفة مثل الكونترباس والفيولا والبوق والتوبا والكمان، ليمتزج كل شيء بكل شيء ليخرج من هذا المزيج نغم طربت له الأذن واطمأنت له النفس. كما استمتعت العين بما رأت فلم تر في ذلك التنوع «لخبطة»، وإنما «تماسك» رائع هو تماماً ما نحتاجه. وللحق فقد كان وراء هذا المزيج البديع رجل واحد نجح في منع النشاز بل وصناعة نغم مؤنس. إنه «محمد القحوم» قائد الأوركسترا في تلك الليلة. شاب واعد، سمعت أنه في الأصل مهندس لكنه دارس متعمق للموسيقى معتد بتراثه مجدداً في أساليب تقديمه. رجل بسّام مملوء بالبهجة والحيوية إلى حد أنه لم يلتحم فقط بالفرقة مؤلفاً بين عناصرها، بل وبالجمهور الذي شعر بعد دقائق من بداية العرض بأنه جزء من الحدث وليس مجرد مجموعة من المتفرجين. كان قائداً دقيقاً للفرقة إلى حد لا يصدق. فلم يكن يحرك عصاه لتنبيه الفرقة فقط عند تغيير النوتة أو الكلمة بل وحتى عند التأكيد على الحرف.
رأيت أمامي بلا مبالغة مشهداً كونياً خلّاقاً، كل هذا على خشبة مسرح لا تزيد مساحتها عن بضعة أمتار. لاحظت السعادة وهي ترتسم على وجوه اليمنيين والعرب والأوروبيين من أعضاء الفرقة. وجدتهم برغم تنوع ثقافاتهم واختلاف أذواقهم الموسيقية قادرين على تقديم عمل متجانس ليس فيه فوضى أو تخبط أو نشاز. قدموا خليطاً موسيقياً ناجحاً. سألت نفسي لماذا نجحوا ولماذا لا ينجح غيرهم؟ لماذا يعجز كثير من الناس عن تجاوز صناديقهم الثقافية الضيقة لا لكي يتخلوا عنها وإنما فقط لكي يفتحوا فيها نوافذ تريهم ما بداخل الصناديق الثقافية لأناس غيرهم؟ لماذا يستمر العجز في تقبل الآخر والوصول إلى ذلك الخليط الإنساني المستحب الذي قد ترتاح البشرية بفضله من أمراض التعصب وضيق الأفق والعنصرية التي تتغذى على الجهل والمصالح والطمع؟
كل من كان أمامي على خشبة المسرح قبل بالآخر كما هو وليس كما يتمناه. لم يقل اليمني للغربي يا رجل تخلى عن الفيولا وتعلم القصبة فأنت في رحاب حضارتنا. ولم أجد على تعابير وجه العازفين الغربيين عندما استمعوا إلى صوت السمسمية إلا الاستحسان كما لم يصدموا أو يستنكروا أن يكون قائدهم موهوب يمني أسمر اللون. امتزجت الملابس والآلات والألوان وملامح الوجوه. ومن هذا كله خرجت أمسية ممتعة وشيقة بكل المقاييس أبهجت الحاضرين.
هذه الفرقة الموسيقية لم تجد أمامها حلاً إلا النجاح. لم يكن أمامها إلا القبول بالتنوع والاعتراف به والانطلاق منه، ولهذا نجحت. والبشر كذلك لكي يريحوا ويستريحوا عليهم أن يقتنعوا بعد أن جربوا كل الطرق والوسائل بأنه لم يعد أمامهم سبيلاً للنجاح إلا القبول بالتنوع. عليهم أن يقبلوا به، بل وأن يحبوه لكي يروا قدرة وحكمة الخالق عز وجل في صناعة هذا الكون الواسع الثري. لن نغير بعضنا مطلقاً، ولن نعيد بناء العالم على مقاس أفكارنا أو بحسب أذواقنا. علينا أن نقنع بأن العالم أكبر من أي منا وأوسع بكثير من أي ثقافة وأي شعب. وبما أننا لن نغير بعضنا فمن الحكمة ألا نُغير على بعضنا أو ننتهك أو نسخر من ثقافات بعضنا. القبول بالتنوع هو الحل. فالتنوع ليس سبباً للصراع وإنما على النقيض هو نداء السماء لأهل الأرض، ليتقاربوا فيما بينهم، طالما أن التوفيق والمزج بين الثقافات لا يأتي بما يخالف فطرة الإنسان بل يحفزها على قولة «الله الله» وهو يسمع أو يرى كل جميل.