+ A
A -

في نهاية جلسة أوشَوَا، التي جمعتني مع النخبة الجميلة، في منزل د. عمرو شفيق، وجدنا حجم التوافق الكبير، في فهم مسار فكر النهضة الإسلامي، وخاصة علم الاجتماع الضروري، في إصلاح فقه الدولة والمجتمع، والذي عُطّل في التراث، ودلائل تعطيله المتعمد وردَ خبره في السُنّة النبوية ذاتها، بل وعُطل المقصد القرآني الأساس، وهو العدل الذي قامت عليه السموات والأرض، واستُنزف الجدل التراثي، فيما يحمي العصبية، لا مصالح الأمة الإسلامية، فخضع فقه التراث لا فقه الشريعة لسلطة المستبد، وهذا كله لا يُلغي أهمية فقه الحياة الحضاري الأخلاقي، ودلائله في كنوز التراث الأخرى.

لكن التخلف كبير، في علم طبائع المجتمعات وفهم أحوالهم، وما يُصلحهم، وما هو من سنن الله فيهم، وكيف يُجمعُون في عقد اجتماعي ودساتير، وثيقة المدينة النبوية أصلٌ فيها، فتنظم وتسيّر أمور الناس بوسائط، أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومساحات مباحات، ومدنية طبيعية أصلية في ذات البشر، جعلها الله للناس والشعوب، تسعها رسالة الوحي.

ولذلك كانت نوازل الأمة الكبرى، من قبل اجتياح التتر لبغداد وبعد سقوط الأندلس، حتى غزة، ذات علاقة بهذا الأمر، في انتكاسات التاريخ الكبيرة للمسلمين، فمن يعمل اليوم على بقاء الطريق منقطعا، ويرفض أن نتعبد الله باستئناف علم الاجتماع الإسلامي؟

هل هو غياب هذه الحقائق عن المشايخ، هل هو خطاب العاطفة الصاخب العفوي أو الوظيفي، الذي لا يريد أن تُراجَع أزمة الذات، ولا فهم ما يُطرح من رؤى جديدة في علم الاجتماع والنهضة، حتى أنهُ يسارع في التضليل، وهو لم يفقه مقصد الكاتب، بل لم يقرأ له ما يجب أن يقرأه للحكم على الرأي، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.

في تجربة الحياة برز لدي سببٌ آخر لا دواء أجده لعلته، وهي أن الداء القاتل، ليس بسبب توجه هذه الشيخ أو التيار بالضرورة، فمحال أن تجمع الناس على منهج واحد، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، جليّة في تعدد تخصصات أصحابه، بين معركة سيف وسياسة وقُرّاء حفظوا الوحي، وإنما البلاء في روح الانتهازية المصلحية المادية، التي حين تتسرب إلى العمل الإسلامي، تردد شطر قول الشاعر: من يُصلح الملح إذا الملحُ فسد؟

خرجنا بعد الحوار الدسم، إلى جامعة (أونتاريو تيك)، حيث يعسكر شبابنا العربي الكندي، في ساحة الجامعة الخضراء، ضمن حركة الاحتجاجات الشبابية، في أميركا الشمالية المعتصمة لأجل غزة، كفلتها الحقوق الدستورية والتعاقد الاجتماعي، ولقد أكبرتُ ذلك الالتفاف الرائع من الأهالي وهيئة التدريس، بعد أن وقّع أعضاء الهيئة بيان التضامن مع طلابهم، وتعاهدهم للدفاع عنهم، وكان الأساتذة العرب الكنديين، في متابعة حثيثة مع الشباب، كان توقيت وصولي دقيقا، حيث أخبرني الأخوة، أن الشباب في جولة مفاوضات أخيرة مع إدارة الجامعة، انتهت إلى اتفاق جيد.

يتضمن مساهمة الجامعة بمبادرات إنسانية اكاديمية، لصالح طلبة غزة، وأن الشباب سيبادرون بإنهاء الاعتصام، تقديرا لزملائهم الطلاب، ولأهاليهم ولمجتمع اوشَوَا الصغير، وللتعامل الذي أدارت به الجامعة موقفها من الاعتصام، فقضية غزة هي قضية الإنسان، في حق تعليمه وأمنه ووجوده، وقد أباد الإرهابيون كتلة كبرى من شعبه، عبر مجرمي حرب في تل ابيب، أُعلن رسميا اتهامهم من محكمة العدل الدولية.

فمعسكرات الشباب، ليست مبادرة كراهية ولا فوضى، ولا مشاغبة للناس في حياتهم التعليمية، ولكنها تذكرة لدور هذا العالم في إمداد مجرمي الحرب، عسكريا وسياسيا واقتصاديا وأكاديميا، غير أن روح الشباب وكنديتهم تعي دوما تقدير الظروف، واختلاط المصالح ومحدودية المؤسسات، وإن كان ذالك كله، لا يهوّن من أدوار بعض المؤسسات الغربية، في دعم محور الشر في تل ابيب، الذي اعترف بسلاحه مرارا، أنهُ لا يؤمن بحق الحياة للإنسان الآخر ولا بأطفاله.

هنا شعرتُ بعلاقة الحوار الجميل والتوافق المهم، في مجلسنا مع مضيفنا الكريم، بهذا النموذج الذي نواجهه، في طبيعة حياتنا الكندية وبقية الغرب، بل في فقه علاقة المجتمعات ذاتها، وفي فكرة إنشاء مسار التأصيل لحوار الحضارات، الضروري لنا في المهجر، في سبيل وطن آمن مستقر ومجتمع مسلم متشارك، منحته غزة فرصة تاريخية للعبور من المأزق القديم.

وخلال حديثي البسيط في مجلس الشباب، عاد لي السؤال الأول أين مهمتنا الإنسانية التي بعثتها القيم الإسلامية في الغرب، متى يَبزُغ فجرها، ونُعيد صياغة المشروع الجديد لمواطنة تنفتح على المسرح الإنساني، فتقدم نموذجها الذي لا يقلد الذات الغربية كأعمى، وإنما يقرر كنفس بصيرة، تقف مع الحقيقة ومع المرجع الأخلاقي، تكافئ المحسن، وتُصحّح للمسيء قصة هويته وفطرته، تحت قرآن الخلّاق العليم في كرامة الإنسان وحقه المبين.

copy short url   نسخ
02/06/2024
95