في هذا العصر وبعد التقدم التكنولوجي المتسارع الذي نشهده لحظة بلحظة والذي جعل الحياة رقمية أكثر من أي وقت مضى، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، حيث تكاد لا ترى إنساناً على وجه هذه الأرض إلا ولديه حساب واحد على الأقل على إحدى المنصات الشهيرة عالميّاً، إلا ما ندر.ولأننا مرتبطون بشكل متواصل بالعالم من حولنا، فإننا نسمع كل يوم أن فلاناً انتقد آخر، والممثل الفلاني وجه كلمة لاذعة لزميل له في المهنة، والمتابع المخلص لأحد الشخصيات المعروفة اتهم فناناً آخر مشهوراً على خلاف مع من يدعمه زوراً. ويبدأ القيل والقال وتخرج القصص من رحم العدم أحياناً كثيرة، لكن أغلبنا مقتنعون بالمثل القائل: «لا دخان بلا نار»، وتستمر الحكاية في معظم المناسبات بين أخذ ورد بين من يهاجم ومن تمت مهاجمته دون أن تشهد القصة نهاية منطقية.والغريب في الأمر ربما أن الأشخاص الذين نتخذهم قدوة ومثلاً في هذه الحياة هم أكثر من يقعون في هذه المصيدة، فترى أغلبهم يردون على المنتقدين والسذج ممن لا غاية لهم سوى الارتقاء على أكتافهم واكتساب الشهرة من وراء نشر الإشاعات عنهم وتداول الهراء حولهم.لكن مع ذلك لا يخلو الأمر من بعض العقلاء الذين ينأون بأنفسهم عن الرد على كل متطفل وانتهازي يحاول أن يصنع له اسماً على حسابهم، فيكتفي بعضهم بعدم الرد نهائياً مهما حاول ذاك الشخص استفزازهم، وذلك نعم القرار.في أحد الأيام جاء رجل إلى المتنبي وقال له: فلان يهجوك، فما كان من الشاعر الكبير إلا أن أجاب باقتضاب: هذا صعلوك يريد أن أرد عليه فيدخل التاريخ! هذه كانت حكمة شاعر العرب الذي لم يحظ شاعر قط بما حظي به شعره من عناية واهتمام، والذي لقبه ابن رشيق بمالئ الدنيا وشاغل الناس.إن من السهولة بمكان أن يرد الإنسان على من يهاجمه ويسيء إليه، فلا أسهل من أن ترد الإساءة بالإساءة، وتنجرف مع التيار، في حين أن كبح جماح غضبك وعدم الرد على المسيء يحتاج إلى قدرة كبيرة على ضبط النفس، إلى جانب الوعي الفكري والنضج الروحي الذي لا يملكه سوى قلة من البشر.إن الرد على السطحيين الذي لا يرون فيك إلا ما يبدو منك في الظاهر، ولا يقدرونك حق قدرك، ويحاولون كسب المال ونيل الشهرة على أكتافك.. يزيدهم تمادياً ويعطيهم ما يريدون على طبق من ذهب، لذلك فخير رد على أمثال هؤلاء هو عدم الرد على الإطلاق، لأنك بذلك تبين لهم حجمهم الحقيقي، فيشعرون بالصغار ويدركون أنهم مجرد فقاعات لا بد لها أن تتلاشى ولو بعد حين. أما اندفاعك للرد على أصحاب النفوس الصغيرة والعقول المريضة لن يجلب النفع لك بل العكس، حيث إنك بذلك التصرف ستشعرهم بالأهمية وبقدرتهم على إغضابك وإجبارك على إضاعة وقتك في سبيل الرد على ادعاءاتهم.الحكمة في الحياة موجودة منذ فجر التاريخ، وليست خاصة بعصر دون آخر، لذلك كان بيننا حكماء أمثال المتنبي وغيره ممن تركوا لنا دروساً قيمة لنستفيد منها، أما الحكيم فهو الشخص الذي يتعلم من تجارب الآخرين، فلا يكرر الأخطاء ذاتها، ويطبق الأساليب الناجعة التي استخدمها من سبقوه وأثبتت فعاليتها.إن ردك على الجهلة والسذج ليس سوى استنزاف لطاقتك الفكرية والنفسية وإضاعة لوقتك وجهدك لا أكثر، فلا تنزل إلى مستواهم ولا تدعهم يؤثرون فيك بشكل سلبي، بل اكتفِ بتجاهلهم وعدم الرد عليهم وكأنه لا وجود لهم في هذه الحياة، وتأكد أن جميع محاولاتهم البائسة ستذهب أدراج الرياح، ليعلموا أنك شخص منيع لا يمكن المساس به مهما فعلوا.
آراء و قضايا
قيل للمتنبي.. فلان يهجوك
حمد حسن التميمي
Aug 03, 2022
شارك