الحرية أولاً، والمساواة، هذه هي الأسس التي ينشغل بهما روسو، لتحرير موقع المشرّع، أن يكون حراً في تشريعه، وأن يلتزم بمساحة المساواة للمواطنين، ويُذكّر روسو بقوة، بأن هذه الحرية تعني منع بيع الضمير الشعبي، وحق المواطنة الحرة، لقوة النفوذ والهيمنة، فمتى ما أسقطت الحرية، عاد المتنفذ المستبد الفاسد، ليكون شريكاً في حرية الفرد، أو في المشرّع حين يكون تابعاً له.
يردُّ روسو على القول بأن المساواة وهمٌ نظري، أي أن طبائع الأنفس ومساحات مصالحها، وتعدد جغرافيتها، قد تحول دون تحقيق مساواة واقعية مادية متطابقة، ويحتج بأن الفروقات التي تُحدثها الطبيعة، أو الجغرافيا، تُضبط بالقانون العدلي، وبمسؤولية المشرّع لحماية حق المساواة، وبالتالي فالاستثناءات التي تحكمها الظروف الواقعية، لا المظلمة الاجتماعية أو الانحياز والمداهنة من السلطة، تُحصر في إطارها.
في المفاهيم الإسلامية، العدالة والمساواة مطلقة، دون استثناء، لكنها قد تختلف في التطبيق، لظرف خاص، كموقف النبي صلى الله عليه وسلم، من توزيع مغانم الحرب المادية، على مسلمة الفتح في غزوة حنين، وقد كان مقصده ضمان نزع الروح المادية الجشعة، من نفوس قيادات قريش، وتأمين الدولة المسلمة من خططهم الأخرى، أو انفتاحهم في ذلك الوقت على فارس والروم.
وهو بالضبط ما تحقق لصالح الجزيرة العربية، ثم ما أثر معنوياً على بعضهم، فحُسَنَ اسلامه، فمنح النبي صلى الله عليه وسلم، نصيب لهم فوق نصيب المهاجرين والأنصار، غَيّر واقع الجزيرة وبالذات الحجاز، وضمن تأمينها العسكري.
ولذلك تفهم النبي كلياً ألمهم النفسي، وقرر لهم أن تَصرفَهُ ليس لعدم الإيمان بفريضة المساواة، ولكنه استرضى خواطرهم، وأشار إلى مقصد فعله، في حين هو شخصياً صلى الله عليه وسلم، كان يجوع مثل ما يجوع فقيرهم، ويتقشف في معيشته ولباسه مثلهم، وتُحرّض شريعته دوماً على العدل والمساواة.
وانظر في هذا الشأن سيرة أبي بكر الصديق، ومقولته الشهيرة، في أن الضعيف قوي لديه في حقه، حتى يسترد له مساحته المظلومة، ثم في سيرة عمر ابن الخطاب في مراعاة مواطني الأمة والتشديد على الا يُمس حقهم، وألا يَتغوّل عليهم الولاة.
ثم في المنهج العملي الصارم لعمر ابن عبد العزيز، وردَّ ما استطاع من مظالم بني أُمية، واعتبار ذلك في تاريخ التشريع الإسلامي، عند سلف الأمة، فقه عدالة رشيد، إذن فالمساوات هنا أصلٌ ثابت، ولا ينقضه تقديرات الشريعة لاستحقاقات المساواة المادية، التي يحتاجها الظرف المعيشي بين الذكر والأنثى، أو بعض أحوال الناس، فهنا القانون الذي يضمن مسطرة المساواة، كما أشار له روسو واحتج به، موثقٌ في مصادر التشريع الإسلامي، وإنما نَقَضَهُ فجور المستبدين.
وروسو حين يضمن قاعدة متينة للشفافية، في حماية حق المساواة وحق المشرّع الحر دون تأثير عليه، أو ترغيب يُفسده، يُطلق مساحة تقدير التشريع بعدها، ومراعاة ظروف القوانين، في أقاليم تختلف بين السواحل والصحاري، وعوائد الزراعة أو التجارة أو الصناعة، وطبائع الشعوب فيها، أي أنهُ يضع مساحة مرنة للمشرع في نسب التوزيع دون الإخلال بالقواعد العامة.
ويبرر روسو ذلك كون أن سياسة الدولة، يجب أن تراعي الغرض المشترك بين الناس، ويُفرد العرب بأن مشتركهم كان هو الدين الإسلامي، وهذه لفتة عجيبة من روسو، بأن ميلاد العرب قام على البعث الرسالي، ولأسبارطة والرومان مشترك مختلف، فكان الغرض الذي يجتمع عليه الناس، الحرب وتوسعه الامبراطورية لأسبارطه، وأشار للفضيلة في غرض روما، وهو ما يحتاج أن يُفنّد هنا، ما هي تلك الفضيلة التي عاشت بها روما؟
لكن روسو يقرر هذه الأغراض بحسب روح الشرائع بين الأمم.
وواضح هنا أن انفتاح روسو على الإسلام، كان مستطرداً لكنه لم يستكمل البحث فيه، ولا وصل إلى مصادره، وأحدّد هنا مرحلة عمر ابن عبد العزيز الغائبة كلياً عن روسو، والتي تدخل في دائرة اختصاصه، أما دمج اليهود بالعرب في غرض الأمة المشترك، وهو الدين، فقد أخطأ فيه روسو من فالعرب كانوا جماعة قومية وأما اليهود فأمة دينية.
الفارق هنا أن هذه القبائل العربية، حملت رسالة أممية للعالمين، وتجاوزت في ملحمتها الأصلية، وليس في عصبياتها العنصرية فيما بعد، كامل قوميتها وانطلقت إلى بعثها الرسالي، والذي كان فيه محمد صلى الله عليه وسلم، نبياً من الله للإنسانية وتاريخ وجودها.
فيما في الحالة اليهودية، تغيرت أمة الرسالة للنبي موسى، إلى تشكل قومي منعزل، خاض مواجهات مع الأنبياء ومع بقية الأمم، وكان فيهم الصالحون، لكن غلب عليهم تيار الفساد الديني الشرس، الذي خلق من بني إسرائيل أمة قومية منعزلة دون الأمم لا رسالية، وهذا هو تعقيبنا على خطأ روسو.