روى «محمد بن أحمد المقري» في كتابه الرائع «المختار من نوادر الأخبار» أن عمارة بن حمزة دخل يوماً على أبي جعفرٍ المنصور، فأجلسه في صدر المجلس وأدناه منه.فقام رجل فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين!فقال له المنصور: من ظلمكَ؟فقال: «عمارة بن حمزة» الذي أجلسته في صدر المجلس، غصبَ لي ضيعةً!فقال المنصور: قُمْ يا عمارة، واستوِ مع خصمك في المحاكمة، واجلسْ عنده!فقال عمارة: ما هو خصمي يا أمير المؤمنين!فقال له المنصور: وكيف ذلك؟فقال: إن كانتْ الضيعة له فلا أنازعه فيها، وإن كانتْ لي فقد وهبته إياها، وهي ملكه دون ملكي، ولا أقوم من مجلسٍ شرّفني به أمير المؤمنين! فاستحسن المنصور ذلك منه، واسترجح عقله، وبقي حتى وفاته يدنيه منه!قد يرى شخص أنَّ في هذا الجواب تزلفًا للسلطان، وتمسيح جوخ كما نقول في كلامنا الدارج، وإني وإن كنتُ أمقتُ المتزلفين، ولا ينزل لي مساحو الجوخ من حلق، إلا أني أرى أن ما صار في هده القصة هو من الأدب!السلطان ليس كغيره من الناس، واللغة التي يُخاطبُ بها يجب أن تكون منتقاة، تعج بالأدب، وتزخر بالتوقير، وهذا لا يعني التصفيق للباطل، ولا يعني ترك النصح للسلطان، وإنما أعني الأسلوب، والأدب مقدم على العلم، والحكمة خير من كل شيء!فكما أننا نُخاطب الطفل بلغة هي قريبة من عقله وعمره وتجربته بالحياة، وكما نترفق بالشيخ الطاعن في السن ونجاريه، ونرقُّ للعجوز المسنة ونتغافل، ونعدُّ ذلك من الأدب وكمال العقل، فكذلك مخاطبة كل إنسانٍ بما يليق بمركزه ومقامه إنما هو من الأدب وكمال العقل أيضاً!زار الرشيد يوماً وزيره خاقان في بيته لمرضٍ نزل به، وكان الفتح بن خاقان وزير العباسيين الشهير ما زال طفلاً يومها، فأراد الرشيد أن يلاطفه، فقال له: يا فتح أرأيتَ أجمل من هذا الخاتم؟فقال له الفتح: أجمل من هذا الخاتم اليد التي هو فيها!فقال له الرشيد: أيهما أجمل يا فتح، دار الخليفة أم دار أبيك؟فقال له: دار أبي لأن الخليفة فيها!أنزلوا الناس منازلهم، فهذا من هدي النبوة، واختاروا مفرداتكم، الأدب لا يعني التزلف، ولا تنسوا أن المرء يمكنه أن يقول الحقيقة بأسلوب جميل وتبقى حقيقة، وقابلة للسماع، ويمكن أن يقول الحقيقة بأسلوب فظ فلا يقبلها أحد! ثم إنك مهما كنتَ على حق، فالأسلوب أولاً، فلا حق أعلى من التوحيد، ومع ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: «ولو كنتَ فظاً غليظَ القلب لانفضوا من حولك»!الحق الذي لا يُقدَّمُ على طبقٍ من اللطف لا يستمعُ إليه أحد!