+ A
A -
قالت العربُ في مَثَلِهَا الجاهليّ: أشْأَمُ من رغيفِ الحولاء!
والعربُ كانوا أهل طيرة، يستقسمون بالأزلام، ويُكثرون من التشاؤم، وبقوا على هذا ردحاً من الزمن حتى جاء الإسلام، إلا أنهم كانوا بين تشاؤمٍ وآخر يتفاءلون! فقد سمّوا الملدوغ بـ«السليم» تيمّناً بشفائه، وسمّوا القافلة بهذا الاسم الذي اشتقوه من الفعل «قَفَلَ»، أي رجع، تيمّناً بعودتها! غير أنّ مربط الفرس ليس هنا، فلنا في الحديث شأن آخر غير هذا!
وبالعودة إلى المثل، والمثل- والكلام يجرُّ بعضه بعضاً- شيء والحكمة شيء آخر، فالحكمة نتاج فرديّ بينما المثلُ نتاجٌ جماعيّ، فالحكمة يقولها شخص وليس بالضرورة أن ترتبط بحادثة، كما يُغرّد أحدنا في تويتر، فتستحسنها العرب، وترتوتها له، وتصير حكمة يتداولها القوم! أما المثل فينشأ بالضرورة عن الجماعة، إذ إنّ له قصة لا محالة، وقد يكون المثل من قول شخص، ولكن لا يمكن عزل هذا القول عن الحادثة ولا عن سياقه الاجتماعيّ!
بعد هذا الحديث الذي لا علاقة له بالموضوع، نرجع إلى الموضوع! وتحديداً عند قولهم: أشأمُ من رغيف الحولاء.. وقصة المثل أنّ امرأةً حولاء كانت تبيع الخبز في الجاهليّة، وحدث مرّةً أن وضعت خبزها على رأسها كعادتها، واتجهت إلى السوق لتبيعه، فجاء رجل على فرسه، وأخذ رغيفاً من الأرغفة التي تحملها المرأة، فقالت له: ما اشتريتَه مني بثمنه، وما استطعمتكَ إياه! فلم يُلقِ لها بالاً، عندها قالت له: واللهِ ما أردتَ بهذا إلا أن تستهزئ بجاري فلان! وفلان لم يكن له من الأمر ناقة ولا جمل! غير أنّ العرب كانوا أهل حميّة، فلما وصل القول إليه، غضب، وامتشق سيفه، وفزع قومه له، ولما عرف آكل الرغيف بهذا، امتشق سيفه هو الآخر، وفزعَ قومه له أيضاً، فدارت معركة طاحنة بين الفريقين، ذهب ضحيتها ألف رجل! لهذا جعل العرب الحولاء ورغيفها مضرب شُؤم! والعُهدة في قصة المثل على الرّاوي، والرواة في الغالب ذممهم أوسع من شروال جدّي، ولكنّ الرّاوي هنا هو الميدانيّ، في كتابه مجمع الأمثال، وهو من أكثر الذين كتبوا في التراث أمانة في النقل، وتحرّياً للحق، فليس عنده مبالغات الأصمعيّ، ولا تخاريف أبي الفرج في الأغاني!
كلمةٌ يقولها المرءُ لا يلقي لها بالاً تجرُّ الحتوف، وتطيح بالألوف! وتفتحُ باباً للشرّ كان مغلقاً، وإن كانتْ الحولاء قد أفضَتْ إلى ما قدّمتْ إلا أنّها أورثتْ مهارتها في إيقاد الفتن إلى خلقٍ كثيرٍ يعيشون بيننا!
تكون المرأة في بيتِ زوجها صابرةً على فقره، متعايشةً مع قلّة ذات يده، إلى أن تحضر إحدى صديقاتها وتبدأ توسوسُ لها! كيف تصبرين؟ وكيف تتحملين؟ فلانة تشتري لكل مناسبةٍ فستاناً، وفلانة تُغيّر أثاث بيتها كلّ سنة، وفلانة تُسافر للإجازة كل صيف، وأنتِ مدفونة في هذا البيت! فما يلبث الصبر أن ينفد، والرضى أن ينقلب سخطاً، هكذا بكلمةٍ واحدة في جلسة وسوسة! والنبيُّ، صلى الله عليه وسلم، يقول: ليس منّا من خببَ امرأةً على زوجها! أي أفسدَ امرأةً على زوجها.. فما سبق كلامٌ فيه من نيّة الإفساد أكثر ما فيه من شفقة النُّصح! يكون الشّاب طائعاً لوالده، متحمّلاً لتضييقه عليه، وتضيق الآباء على الأبناء في الغالب نابع من الخوف والحرص، لا من رغبة التملك والتضييق، وإن كان بعضهم يبالغ فيها.. إلى أن يبدأ صديقه يوسوسُ له! كيف تصبر على أبيك؟ نحن في القرن الواحد والعشرين أما زال في العالم آباء كأبيك؟! متى سيعرف أبوك أنك كبرتَ ولم تعد طفلاً؟ لماذا يتحكّمُ بك؟ لماذا يجب أن تعودُ إلى البيت باكراً؟ لماذا لا يترك لكَ سيارته؟ ولماذا لا يعطيك الكثير من المال وهو مقتدر؟ فما يلبثُ البرُّ أن ينقلبَ عقوقاً، والاحترامُ أن يصير قلة أدب!
يكونُ الرّجلُ راضياً في عمله، متعايشاً مع راتبه، إلى أن يأتيه من يوسوسُ له! كيف ترضى بهذا الرّاتب الهزيل؟ ألا ترى أنّ ربّ العمل يسرقكَ؟! يا رجل أنتَ تقوم بعمل كثير لأجل راتب قليل! انظرْ إلى هذا كم يتقاضى، وانظرْ إلى ذاك كم ساعة يعمل، إلى متى ستبقى جباناً، طالب بحقّك! فما يلبثُ صاحبنا أن يثور ويخسر عمله، وهات أن يجد آخر، وهات أن يرجع إليه!
ما لكم وللنّاس، دعوهم وشأنهم! الطموح شيء جميل، وسعي الإنسان لتحسين حياته مطلب مشروع، ولكن السعادة لم تكن يوماً مرتبطة بما نملك وإنما برضانا وقناعتنا به! من قال أنّ مدير البنك بالضرورة أسعد من عامل المحطة؟! ومن قال إن سيّدة القصر بالضرورة أسعد من ربّة الكوخ، كثيرٌ من القصور التي ترونها ليست إلا سجوناً فارهة! والقيد يبقى قيداً ولو كان من ذهب!
بيننا شياطين كثيرة طليقة على مدار العام لا يُصفّدها رمضان، ولا تلجمها معوّذات، فلا تعيروها آذانكم!

بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
18/06/2016
2526