بعد أن أفاضَ الناس من عرفات، ومروا بالمشعر الحرام وزحفت تلك الأمم، متعددة الأعراق والألوان، تلهج بلغات مختلفة، لكنه لسان الروح الواحد، توحيد الله ووحدة البشر تحت قانون عدالته، أسبالٌ بيضاء متقاربة أو متطابقة، قد يَظنُّ البعض أن فاخر القماش يُغيّر المعنى، لكن الحقيقة واحدة أن مؤتمر الحج العام للمسلمين، هو مذكِرٌ لهم بمعادهم عند رب العالمين، وبما شرع لهم في حياتهم بين اظهر المسلمين، وبين خلق الله أجمعين.
وفي قانون الله أراد لهذا الحج أن يدمج المسلمين ويُلغي الفوارق بينهم، فإرادة الله تسمو ولو حاول البعض تزوير شريعتها.
فهنا وقف نبيهم: أيها الناس ..
خطبة حقوق تاريخية لم تعرف مثلها البشرية، َقلِّب كلماتها إن شئت، وراجع مفاهيمها للتأكد، لتتيقن أن تلك الروح الأخلاقية في تاريخ الإنسانية، كانت البيان الأول للعالم الجديد، هنا يضع رسول الله الثأر ويُحرّم الظلم، ويُعلن إسقاط الرأسمالية الربوية، وينادي بحقوق المستضعفين، هنا يقف نبي الله الأمين متواضعاً، يسئله الناس ويجذبون رحاله، وهو بين تلك الطليعة الأولى من أمم الجزيرة، التي أضحت اليوم كوناً واسعاً، فلبت الأرض دعوة سيدنا إبراهيم التي حملها الروح الأمين، الى خاتم المرسلين، صلى الله عليك سيدي وآلك وصحبك الأكرمين.
ويا للحسرة حين تضيع مبادئ الهدي الأمين، أين؟
في مناسك الحج! فيظن البعض أن المزاحمة المؤذية للآخرين تعني زكاة طهرانية، فلا خُلق يمنع الحاج المخطئ بدفع المسلمين الشرس، أو بمنازعتهم في الجمرات، وقد ضيع كثيراً من الطاعات، فلم تسكن جوارحه بين الخلق، ولم تغسل دموعه روحه، لكي تسمو الى البيت العتيق والى مواسم منى، ومنابذة إبليس اللعين.
إن إبليس ليس قعيداً في مجلسٍ تُدافعه فيه، ولكنه روح سوء شيطانية قضت حكمت الله في اختبار الخلق، في أن يعرضهم على فتنته بعد أن ذكّرهم بميثاق نبيهم الذي حمل دعوته للعالمين، رسالة توحيد وطهارة قلوب، وعدالة أحكام وتزكية لنفسك الأمارة بالسوء، فالقضيةُ ليست أن ترمي الشيطان بحجر، وإنما أن تُقصيه وتطرح وسوسته في ظلم الآخرين، وفي غرقك في شهواتك ونزواتك، فما الحج إن لم تتطهر أخلاقيا؟
وتُلبي روحك لَدُنيّاً لله في عبادته، وفي إحسانك لخلقه، فتأمل أخي الحاج إن كنتَ بين ضجيج الحجيج، أو كنتَ ترجوا اللحاق بهم في المستأخرين.
ثم تذكّر معنى أن يشدد النبي صلى الله عليه وسلم، على نبذ العصبيات والجاهليات، وانظر إلى حالة الأمة المروع، في تفككها وفي صراعاتها، على مستوى الأفراد والدول والمجتمعات، فكن حين تصدرُ من البيت الحرام نموذج إصلاح، لا نموذج فتنة، لا يغير فيك الحج شيء من اخلاق السوء، أو من ظلمك للآخرين، أو من تسعيرك بين الناس، أو من التحريض على بريء، أو الاتجار على حساب حقوق الناس، أو مطاولة اللسان في الأعراض والبهتان، ولن ينفعك تقلبك في الإحرام حاجاً أو معتمراً، وأنت تخذلُ رسول الله فيما نهاك عنه.
ثم استَعِدْ عظمة التوحيد في البيت العتيق، وتذكّر أنك لا تطوف لحجر، ولكنك تطوف بين الأركان، وفوقك ملائك الرحمان، توحيد يربط روحك بخالق، شواهد وجوده في كل مكان:
وفي كل شيء له شاهد يدل على أنهُ الواحدُ.
واحدٌ قادرٌ معطي مانع، رحمن رحيم، بأحوال الناس عليم، لا يخلق هذا الخلق ولا دقة فطرتهم، وعظيم كونهم، إلا الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فكيف ينجو الإنسان، حين يغرق في عبادة حجر أو حيوان أو بشر، ويستعلي على رب السموات وما اظللن ورب الأرضين وما أقللن، فاستذكر عظمته في ذالك النور الذي لا تشعله المصابيح، ولكنه في سر صنعة رب العالمين.
وحين تأتي لحظة القرابين، فعلم أن نحر الهدي، ليس لتعذيب الحيوان، والاستمتاع بذلك، ولكنها أنعامٌ خلقها الله لما شرعه للبشر، وناموس كونه لعمران الأرض، ولن يبلغ الله دماءها ولا لحومها، ولكن تقواك في ذاتك، واستحضر قصة فداء سيدنا إبراهيم، وأن شرعة الله فوق الشهوات، وأن هذه الوحدة الجامعة للمسلمين، تُختتم في يوم العيد الكبير، باحتفالية يُكرِم فيه القادر أهله في الإسلام، فيُطعَمُ الناس لحم القرابين، لكي يشبع القانع والمعتّر والضعيف، فانظر هنا لمفهوم التضامن الروحي.
وسواء وقفت في عرفات أو مررت بالمشعر الحرام، أو جئت لكعبة الله وركن المقام، فتذكر من سالت دماؤهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد خذلهم أهل قلبتهم قبل أن يتمكن منهم الطغاة، فيُحيلون أطفالهم إلى أشلاء، تذكرهم في غزة وفي كل بلاد نُكبت، واستذكر وصايا النبي الأمين في حقوق المسلمين، فمن لم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم.