+ A
A -

من عصور ما قبل التاريخ والإنسان يألف العيش مع أخيه الإنسان. في البداية، كانت أعداد البشرية محدودة، فكانوا عبارة عن عائلات متفرِّقة، تحوَّلت فيما بعد إلى مجموعات منفصلة، ومن ثم إلى قبائل صغيرة، حتى بتنا اليوم نعيش في بلدان مكتظة بالناس، حيث يعيش كل واحد فينا محاطاً بأعداد هائلة من الأقران، يتشاركون تفاصيل الحياة وسط مدن وقرى تزخر بالسكان.

خلال مختلف العصور التي مرت بها الإنسانية، اكتشفنا أن العمل المشترك أساس النجاح والإنتاجية، ودعامة بناء الحضارات وازدهارها، ووسيلة لا غنى عنها لسبر أغوار هذا الكون الفسيح، بل وأساس بقاء البشرية واستمرار وجودها.

إن الفرد يولد صغيراً محتاجاً إلى من يعتني به ويرعاه حتى يشب ويكبر. وبعد أن يغدو قادراً على تحمل مسؤولية نفسه وحياته، يظل بحاجة إلى عون الآخرين وخبراتهم، لأنه لا وجود لإنسان على وجه البسيطة يستطيع القيام بكل شيء بمفرده مهما بلغ من ذكاء وخبرات.

بينما أنت عالم فذ أو أستاذ جامعي مخضرم، فلا شك أنك بحاجة إلى الاستعانة بسباك لإصلاح أعطال المنزل، وخباز تشتري منه الخبز، وطيار يأخذك حيثما تريد، وهلم جرّاً. كل منا بحاجة إلى الآخر لمواصلة العيش وتحقيق كفايته، وهذا هو أساس العلاقات بين الأفراد، حيث يتم تداول الطاقات البشرية بين الناس لتحقيق المصلحة العامة في نهاية المطاف.

لا شك أن هناك لحظات تتمنى فيها لو تعيش وحيداً، لكنك لو جربت ذلك فستدرك مدى صعوبة الحياة بل واستحالتها بمفردك. إن وجودك لا يحلو ولا يكتمل إلا بتواجد بني جنسك حولك، لهذا يفتش الإنسان بدافع فطري غريزي عن أصدقاء وأحبة يحيط نفسه بهم، ويسعد برفقتهم خلال مسيرة وجوده، حتى بات هذا مطلباً عالمياً يشكل هاجساً حقيقياً لدى معظم الناس، يتمثل في خشية المرء من أن يقضي حياته وحيداً دون صديق أو شريك أو أطفال يدخلون البهجة إلى واقعه.

إن الصداقة والحب، الأسرة والأطفال هم شكل من أشكال تعبير الإنسان عن حاجته الفطرية إلى الآخر. والحقيقة، أننا نكمل بعضنا البعض من خلال التعاون، والتشارك، والدعم المتبادل.

من الجدير بالذكر أن اعتمادك على الآخرين لا يعني أنك غير قادر على قيادة حياتك وتحقيق النجاحات الفردية، بل على العكس تماماً، حيث تكتمل دائرة النجاح والسعادة من خلال التعاون الإنساني. وهذا يعني أنه لا وجود لنجاح فردي خالص كلياً، فأي شيء تحققه لا بد أن يكون لأحد آخر دور فيه، برغم أنك قد تكون صاحب الجهد الأكبر، والصانع الرئيسي لنجاحك الشخصي.

لهذا كله، فمن الغريب أن ترى بعض المتغطرسين المغرورين ممن ينسبون فضل نجاحاتهم وإنجازاتهم إلى أنفسهم فحسب، متجاهلين ما قدمه لهم آباؤهم وأمهاتهم من رعاية واهتمام، وكذلك ما قدمه لهم أناس كثيرون من مساعدة معنوية ومادية على طول الطريق المؤدي إلى حيث يريدون.

إن الغرور هو أن تعتقد بأنك صاحب الفضل الوحيد في أي شيء تنجزه بين ربوع هذا العالم. أما التواضع فهو على النقيض من ذلك تماماً، حيث تدرك بعمق وجداني أنك جزء من معادلة النجاح الكونية، وبهذا تحتفي بنجاحك ونجاح الآخرين، وتبني جسور المحبة والتقدير بينك وبينهم. فكيف لا، وأنت تعي جيداً أنه لولا أقرانك لما كان لك وجود أساساً، ولما استطعت تحقيق أدنى إنجاز في تاريخ مسيرتك.

من هذا المنطلق، على كل واحد فينا أن يقدر الناس من حوله، ويعترف بفضل من ساهموا في نجاحه، ويقرّ بالجميل لكل من مد يد العون ووقف إلى جانبه وقت الرخاء ووقت الشدة، مدركاً أن يداً واحدة لا تصفق، وأن الوجود يحتفي دوماً بالتعاون والإيثار لا بالفردانية والأنانية.

copy short url   نسخ
17/06/2024
50