هيمن العمق القرآني على روح مالك بن نبي، في كلتا معركتيه الكبريين في استئناف درب الحضارة الإسلامية، كما رآها في مشروعه، ولذلك فإننا نرى دوماً أن مالك بن نبي يؤسس لعقيدته الفكرية، من خلال الظاهرة القرآنية قبل أي كتاب آخر، كما أن سوانح الاندفاع والصراع الذي خاضه، حين تضطرب سياقات فهم أفكاره فيها، لا بد من العودة إلى ميلاد نظريته القرآنية، لفهم مواقف مالك بن نبي ورؤاه، وهي مهمة دقيقة لا يُحسنها كل أحدٍ بالضرورة.

لقد استيقط مالك بن نبي فزعاً من هذا النور القرآني المقدس، وكان مثقفاً ضليعاً في قراءة وهضم الفلسفة الغربية والفرنسية على الخصوص، في خطوطها الكبرى، وفي مسلماتها الوجودية وفي جولتها الحضارية، وبالتالي أدرك كليات هذه الفلسفة، ثم مآلها المعاصر، وفي ذات الوقت واجه مباشرة رؤية هذه الفلسفة وخلاصات تطبيقها، على العالم الجنوبي والإنسان الآخر، وكانت الجزائر في طليعة مزارع الإبادة لهذه الفلسفة (التقدمية)، وبالتالي انتهج مالك بن نبي مسلكاً متمرداً، بعد أن تمكن الإيمان القلبي والاستيعاب المعرفي من قناعته، فأعلن ثورته.

وهو خلافٌ لما اندرج عليه بعض المفكرين والمثقفين المغاربة، في المغرب العربي الكبير في ذالك الزمن وما بعده، من التماهي مع الرواق الأكاديمي ومرجعيته الفرنسية العليا، ومن ثم حصر نزعة فلسفتهم تحت المقدسات الفكرية الغربية للحداثة الفرنسية، وهناك تيار ثالث كان يؤمن بالنقض وبالندية، لكنه لم يضطر لمعركة مالك بن نبي الحادة، لكون حصار الأخير، منعه اصلاً من الحصول على منبر حوار، حين منع في أول خطواته الاكاديمية، فقررت باريس أن تحبس مهندس النهضة، ولا تعطيه شهادته.

وحين استيقظ مالك على فزعه الفكري، في إدراك المغزى القرآني، عاد له في كِلتا زاويتيه، فأعاد تحرير قواعد النهضة الجديدة، التي تعتمد على النور القرآني، في سبيل ميلاد الشرق الجديد، وهو هنا شرق فكري يشمل كل قارات العالم، واحتضن حركة البعث والإحياء الإسلامي، التي نادت بكلتا مسلمتي مالك بن نبي، التمرد على القابلية للاستعمار، واستئناف الحضارة عبر اصل الإسلام، وحكمة الأفكار التي تعبر بين حضارات الأمم، بوعيها القرآني فتُوافق وتُخالف وفقاً لمقاصده الكبرى.

فبدأ يبعث ثورته الفكرية، التي فجرها القرآن، وانطلق لتحرير مدرج النهضة، لكنه وُوجه بكل قسوة، وقُطع الطريق عليه مراراً، لكن عزيمته ظلت تكافح حتى الرمق الأخير، فانجز مكتبته النهضوية.

وفي ذات الفترة كان الهجوم الفرنكفوني قاسياً وعنيفا على أهل القرآن، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر وما قبله وما بعده، شنت القوات العسكرية الفرنسية حملات على مدارس قرآنية عديدة، ذهب ضحيتها في مجازر عديدة، أعداداً ضخمة من تلاميذ الخلاوي في افريقيا ومن أساتذتها وحفاظها، وفي ذات الوقت كان المكتب الثاني لباريس يعلن حربه الفكرية على القرآن، فاتحدت المعركة في ذهن مهندس النهضة والمقاومة الفكرية في الجزائر.

لقد مثّلت الفصول الأولى من كتاب الظاهرة القرآنية، التأسيس النقضي لعقائد التشكيك في الإيمان والقرآن، والتي كانت قد صُدرت إلى الشرق بالفعل، بعضها بروح تأويل وليس هجوماً مباشراً، وبعضها بمنهج هجومي عقائدي عنيف، والباب الأول هو ما حمل محمود شاكر، على نقد اتجاه مالك بن نبي، في تجاوز الدور الآخر، في تشكيك الاستشراق الفرنسي في الشعر الجاهلي، وتاريخ اللغة كمدخل لنقض القرآن، وهي خديعة ضُلل بها الكثير دون قصد.

وبالطبع كان مالك بن نبي يُدرك حقيقة المشروع الفرنسي، لكنه ركز على أن جوانب المعرفة القرآنية وتاريخ الديانات، وخصوصية القرآن في ذلك، أهم لديه في دلالات الرد على الحملة الفرنسية على القرآن، وخاصة أنهُ أدرك بصورة مبكرة، أزمة الجهل الواسعة في مداولات الوعي المعرفي والفكري، في المؤسسات الدينية، التي لم تعي كنوز القرآن الفكرية العظيمة، ولم تتعاطى معها.

لقد بدأ مالك بن نبي عقيدة النقض للإلحاد ذاته، ثم تقدم إلى عقيدة الإيمان بالنبوات، ورابطتها بالوجود البشري، وبتاريخ الروح، فجمع ما بين تناقض الموقف الفرنسي أو قل الكنسي والاستشراقي الغربي معا، في تبني الإلحاد فيما يتعلق بتاريخ الدين الإسلامي، ثم تصدير الديانة المسيحية ونبوتها، التي يؤمن بها المسلمون وبنبيها المسيح عليه السلام، لكن الإيمان المسيحي الفرنكفوني كان حريصا، على طرد الأمم الأخرى منها، مالم تُقّر بصليب الغزو الفرنسي الجديد، الذي يُخضع تلك الأمم لتبعية دينية، لكنها مع ذالك لا تمنحهم ميزات الإنسان الأبيض (المخلّص والقاتل المتوحش في ذات الوقت).

للحديث بقية