يُعد الاستثمار في القطاع الزراعي محط اهتمام الكثير من المتطلعين لتحقيق أرباح مرضية من رجال الأعمال في جميع دول العالم، ذلك لأن المخاطر فيه قليلة والتسويق مضمون، كون الزراعة هي مصدر الغذاء والكساء، بدونها لا يتحقق الأمن الغذائي الذي هو الشغل الشاغل الآن لجميع الحكومات والمنظمات، فالمعروض منه أقل بكثير من المطلوب، والفجوة بينهما تتسع عاما بعد عام، بسبب النمو السكاني الذي لا يقابله توسع في الرقعة الزراعية، والواقع يؤكد أنه في كل مجالات الاستثمار يسعى المنتجون أو المستثمرون بحثا عن الأسواق، إلا في مجال المواد الغذائية والمنتجات الزراعية، نرى الأسواق والمستهلكين هم من يسعون بحثا عن المنتجين.

وفي فصل الصيف من كل عام تتجدد مخاوف دول كثيرة من تلف المزارع بسبب ارتفاع درجات الحرارة وقلة مصادر المياه وتغيرات المناخ وجفاف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، مما يهدد برامج الأمن الغذائي على مستوى العالم، وعلى ذكر الأمن الغذائي فقد أطلقت دولة قطر عام 2008 البرنامج الوطني للأمن الغذائي، سعيا وراء بلوغ الاكتفاء الذاتي من المنتوجات الزراعية ليس في فصل الصيف الطويل فحسب وإنما طوال العام، بسواعد الطامحين من أبناء الوطن، وبالفعل تحقق الاكتفاء الذاتي من بعض المنتوجات كالخضراوات واللحوم والدواجن وبيض المائدة وغيرها، ولكن لا تزال هناك تحديات تحول دون تحقيق الهدف كاملا، وهو الاكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، ومن ثم التصدير للخارج، في إطار سياسة تنويع مصادر الدخل، وهذا يدعونا لاستعراض الفرص الاستثمارية التي تنتظر رجال الأعمال كي ينتهزوها ويحولوها إلى إنجازات، مع الإشارة إلى المبادرات والتجارب الجادة المبشرة.

الجزء الأكبر من التحديات يتعلق بتداعيات فصل الصيف فمناخ قطر كمثله في بقية دول الخليج يتسم بارتفاع درجات الحرارة، صيف طويل، وشتاء قصير، ومصادر مياه قليلة ومساحة زراعة ضيقة، ومع ذلك شاهدنا محاولات ناجحة ومبادرات جادة أخذ زمامها عدد من المستثمرين تغلبوا بها على هذا التحديات، وأمدوا السوق المحلي بكميات وفيرة من الخضراوات والفواكه التي فرضت نفسها، وتفوقت على المستورد في الجودة، ونافسته في السعر، وربما يُصدر جزء منها إلى خارج الدولة، ودون مبالغة لا وجه للمقارنة بين جودة المنتج القطري من هذه الخضراوات والفاكهة بمثيلاتها في الوطن العربي، بل تقارن بمثيلاتها الأوروبية الأعلى جودة، فإن لم تكن ندا لها قد تتفوق عليها، والشواهد والأدلة على هذا موجودة على رفوف الجمعيات ومراكز التسوق وساحات بيع المنتج المحلي.

لم يحقق المستثمرون القطريون هذا النجاح من فراغ ولم يكن من السهولة بمكان، وإنما تحلوا بالشجاعة والإقدام، فاستخدموا تقنيات عالية بأموال سخية، فأدت الغرض وساعدت في تجنب النبات أضرار حرارة الصيف، أبرزها تقنيات الزراعة المائية أي بدون تربة تستهلك كميات كبيرة من المياه، وذلك عن طريق استخدام محاليل المغذيات المعدنية المذابة في الماء المنغمس فيه الجذور.

كما أن الاستثمار في الزراعة العمودية يتساوى في المزايا مع الزراعة المائية أن لم يتفوق عليه، وتتم هذه الزراعة في بيئة داخلية على رفوف أو أبراج بعضها فوق بعض باستخدام تكنولوجيا فائقة للتحكم وإدارة ظروف المناخ ومعدلات الري ومستويات الإضاءة، ومن مزايا هذا النوع إعطاء إنتاج وفير، يزيد عنه في الزراعة التقليدية بنسبة تقارب الـ 50 % ومن مساحة أقل من مساحة الزراعة التقليدية بنسبة تتراوح بين 50و 70 %، باستخدام مياه أقل منها في الزراعة التقليدية بنسبة 90 %، بحسب تقارير أعدها متخصصون في هذا المجال.

والزراعة المائية والعمودية تتم داخل صوبات مغلقة، تمكن المزارعين من التحكم في مناخها وهوائها وشمسها وظلها وَفقا لحاجة النبات، وهذا يعني عدم انقطاع أي نوع من الإنتاج طوال العام، كما يمكن بداخلها زراعة أية أنواع من خضراوات أو فواكه حتى تلك التي لا تصلح هنا في الزراعات التقليدية، ولهذه الأهمية تعتبر مجالا واسعا للاستثمار، فالشركات التي تصنعها وتركبها على أسس تكنولوجية حول العالم تجني أرباحا طائلة.

لقد عايشنا أزمة كورونا وتابعنا اضطراب سلاسل الإمداد 2017 إلى 5 يناير كما عايشنا الفترة ما بين 5 يونيو 2021، ثبت قطعيا أن في وقت الأزمات كالأوبئة والحروب والكوارث الطبيعية والنزاعات تحجب الدول المصدرة ما لديها من فائض كان معدا مسبقا للتصدير، لتضيفه إلى مخزونها الاستراتيجي، وشاهدنا مجتمعات لم تولِ الزراعة اهتماما قد شارفت على الهلاك، إنما نحن في قطر بفضل الله تعالى والرؤية الثاقبة لقيادتنا الرشيدة تجاوزنا المحن وخرجنا منها أصلب عودا وأنقى جوهرا.

من المهم الآن تشجيع رجال الأعمال على التحول إلى الاستثمار في الزراعة الذكية، فمزاياها كثيرة، منها زيادة الأرباح، ورفع معدلات الإنتاجية على أسس مستدامة، وتوفير أغذية آمنة خالية من الأسمدة الكيميائية والمبيدات الضارة بالصحة والبيئة، إضافة إلى تغلبها على الآثار السلبية الحرارة الصيف والتغيرات المناخية، وهذا دور المستثمرين للمساهمة في تحقيق المشروع الوطني الاستراتيجي للأمن الغذائي، والتنمية المستدامة.

الزراعة أصبحت صناعة تشهد تحولات كبرى على مستوى العالم، دخلت فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي وأنترنت الأشياء والبلوك تشين والروبوتات، وأي مجتمع يتخلف عن هذا التحول الآن لن يجد له مكانا في المستقبل، والدولة أولت هذا القطاع اهتماما بالغا، وحكومتنا تضعه في قائمة أولوياتها، واحتضنت معرض اكسبو البستنة وكان من ثمراته تطوير الشراكات التجارية والمستقبلية، وإبرام الاتفاقيات، وجلب أحدث تكنولوجيا زراعية متقدمة لاطلاع المستثمر القطري عليها والاستفادة منها، فضلا عن الدعم المادي السخي.

لا يمكن الحديث عن الاستثمار في الشق النباتي دون التطرق إلى الشق الحيواني، الذي يُعنى بالثروة الحيوانية والداجنة والسمكية وتربية النحل، لكن المجال لا يتسع وسوف نحاول أن نفرد له مقالا بعد الإجازة الصيفية إن شاء الله.