+ A
A -
د. جمال حسن عتموري محامٍ وكاتب

الحقيقة أن أية حديث حول تطبيق العدالة الجنائية الدولية لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والانتهاكات الصريحة للقانون الدولي الإنساني الواقعة على السكان المدنيين خلال النزاعات المسلحة، لا يكتمل إلا بالتطرق إلى المناهج الجديدة والمفاهيم البديلة للعدالة الجنائية التي شاع تطبيقها مؤخراً للتعامل مع هذا النوع من الجرائم في المجتمعات التي تعبر من حالة الحرب إلى مرحلة السلم، ويشار إلى هذه المفاهيم عند الحديث عنها بالعدالة المتوازية أو العدالة التفاوضية أو العدالة الإصلاحية أو الترميمية ولجان الحقيقة، وكلها آليات ووسائل تعمل على تناول الصراع في إطار بيئته الداخلية والخارجية لإعادة بناء العلاقات الاجتماعية خلال إثبات حقيقة ما جرى بحق الضحايا ومحاولة معالجة أوضاعهم بعيداً عن الوسائل القضائية التقليدية، ولابد من دراسة هذه المفاهيم وتحليلها وفقاً للمعطيات المطروحة لمعرفة درجة تناسبيتها لمجتمعات السودان ذات الانقسام الحاد والمواقف المصادمة في خطابها السياسي وسلوكها الإجتماعي، كما من الضروري الوقوف على مدى قدرتها على بناء الجسور وترميم شروخ المجتمع لإعادة الحياة إلى طبيعتها الأولى.

وإذا كانت المفاهيم الجديدة قد تم تطبيقها بنجاح في مجتمعات تحرص على الحفاظ على بقاء علاقات أفرادها قوية ومتماسكة حماية للمصالح التي تربط فيما بينها، فهل ترى المجموعات السودانية المختلفة ثمة مصالح في استمراريتهم معاً كشعب واحد في المستقبل؟، وهل يمكن أن تعترف أية مجموعة بذنبها حيال ما اقترفته أيديها بحق الآخرين أو تكفر عن أخطائها بحق الوطن وشعبه وتصدق في توبتها، ثم تنخرط مع البقية في مجتمع واحد ينطلق نحو الأمام مخلفاً وراءه آلام الماضي ويهجر خطاب الكراهية الذي قادنا إلى ما نحن فيه الآن؟، وأخيراً هل يجدي تطبيق المفاهيم البديلة للعدالة في الوصول إلى مرحلة عدم تكرار تجربة حمل السلاح مرة أخرى لتحقيق المطالب المختلفة؟.

لعل الإجابة السالبة عن هذه الأسئلة ستطرح خيارات باستخدام وسائل أخرى قانونية في غاية الاختلاف كفلها القانون الدولي العام، كأن يجد الشعب السوداني نفسه بقبائله المختلفة وأقاليمه المتعددة، مجبراً على الضغط في اتجاه مضاد نحو إتاحة المجال أمام كل مجموعة داخل إقليمها الذي تعيش فيه لممارسة حقها في اختيار شكل نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي بما يتفق مع أمانيها، وأن تعرب عبر استفتاء شعبي عن رغبتها بأن يُضم إقليمها إلى أقاليم دولة أخرى أو تكوين دولتها الخاصة بمفهوم الإنفصال، حيث أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال قرارها رقم (13547) الصادر في 14 ديسمبر من العام 1993م، على حق الأقليات في الدول المتعددة الإثنيات في الإنفصال وتقرير مصيرها دون تدخل من الدولة أو النظام السياسى القائم أو إعتراض منه، وقد قامت بتطبيق هذا الحق الذي نادى به القرار مجموعات مختلفة من القوميات والإثنيات في أوروبا الشرقية بعد إنهيار الإتحادين السوفيتى واليوغسلافى السابقين، وكما جرى ممارسته في أندونيسا والسودان حيث حصلت تيمور الشرقية وجنوب السودان على حقهما في الإنفصال بإستفتاء شعبى عام تحت إشراف الأمم المتحدة عبر آلياتها المختلفة.

تبرر المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة تدخل المنظمة في قضايا حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها أو في حالة توافر المصلحة الدولية أو وجود نزاع مسلح يهدد السلم والأمن الدوليين، فقد يكون هذا التهديد نتاج نزاع داخلى بين مختلف عناصر الشعب في الدولة الواحدة، ولا سيما أن أغلب النزاعات الداخلية تصاحبها انتهاكات لحقوق الإنسان أو قيام مصلحة دولية تؤدي إلى تدخل الدول عن طريق تقديم الدعم والمساعدة لأحد الأطراف المتنازعة، فتأخذ المسائل الداخلية للدولة طابعاً دولياً تتحول به إلى ميدان العلاقات الدولية مما يجعل البت فيها من اختصاص الأمم المتحدة، ففي قضية قبرص كانت أكثر من دولة قد أبدت اهتمامها بالقضية، فإلى جانب المصالح البريطانية كانت اليونان تنادى بتطبيق حق الشعوب في تقرير مصيرها واهتمت تركيا بسبب الرعايا الأتراك في قبرص، وقد وسعت هذه المصلحة لعدة دول من اختصاص المنظمة على حساب الاختصاص الداخلي لقبرص وإعتبرتها سبباً كافياً لتدخلها في هذه القضية.

في المسألة السودانية يجد المتفرس أن دواعي انفصال هذا البلد المنكوب إلى إقليمين أو عدة أقاليم تتوافر الآن وتلح بأكثر مما مضى لوجود مصالح دولية وإقليمية وداخلية مجتمعة، فعلى الصعيد الدولي والإقليمي توجد إستراتيجيات خارجية متعددة مسنودة بالمصالح الأميركية في المنطقة لاقتسام ثروات السودان عبر حمامات الدم، أما على المستوى الداخلي فقد وجدت هذه الإستراتيجية تربة صالحة للنمو بين المكونات العرقية المختلفة وبروحها المتوثبة للقتال والذود دون ما تحمله من آمال وتطلعات لحكم أقاليمها بنفسها، وقد بات واضحاً أن المشاعر السالبة بين هذه المكونات تتجزر في الدواخل دون أمل يلوح في الأفق باستئصالها، وحتى ولئن وقفت الحرب بوسيلة من الوسائل ومهما كانت النتيجة التي تنتهي عليها فإن تحت الرماد وميضا يحمل نزر الحرب ويبقى قابلاً للاشتعال واستئناف القتال مجدداً متى ما وقع الخلاف، ما لم يُتدارك الأمر بتقنين الحق في الانفصال بالنص عليه في وثيقة انتقالية عقب انتهاء الحرب، بحيث يُستفتى شعب كل إقليم في الانفصال أو الانضمام إلى إقليم آخر أو دولة أخرى، ولربما كانت الممارسة القانونية الرشيدة لنيل هذا الحق من هذه الشعوب وإيمان قادتها به ووعيهم بدورهم في تحقيق المطالب سلمياً بحقن الدماء وصون الأعراض أخف ضرراً وأكثر قبولاً من أن يأتي الانفصال محمولاً على أسنة الرماح.

ونواصل....

copy short url   نسخ
18/07/2024
5