قد يظنّ البعض أنّ الارتباط بين النزعات الانعزالية التي رافقت ولادة لبنان بشكله الذي نعرفه اليوم، وبين الصهيونية، هو حدث استثنائي غير مفهوم. لقد خبرَت كلّ حركات المقاومة في العالم وجود مجموعات داخل محيطها تنظر إلى رفض القتال، وتدعو إلى الاستسلام تحت عناوين شتّى، ظاهرها الواقعية السياسية وباطنها ارتباط مصالح هذه المجموعات بمصالح تتماهى مع العدوّ، لم يشذّ الصراع في فيتنام عن هذه المقولة، وأخذ الصراع ضد الاستعمار طابع النزاع بين الشمال والجنوب، وعانى المقاومون الفرنسيون من حكومة فيشي أكثر ممّا عانوه من النازيين أنفسهم. ولم ينجح الفرنسيون في إقناع العالم بوجود إجماع شعبي حول المقاومة ضدّ النازية، بل إنّ الدول المناصرة حاولت اعتبار فرنسا في صفوف الدول المهزومة لولا حنكة شارل ديغول وعناده.

لم يمنع الإجماع (أو شبه الإجماع) لدى النخبة الفكرية في لبنان على وعي المشروع الصهيوني والتنبيه من خطره، والدعوة إلى مواجهته، النزعة التاريخية لدى الانعزال اللبناني لمهادنة هذا المشروع، بل والتماهي معه في مراحل مختلفة من تاريخ لبنان الحديث.

لقد كلّفت الحرب الأهلية العبثية لبنان أكثر من مئتي ألف قتيل، ودماراً هائلاً، بما يفوق بكثير أعداد الشهداء في مواجهة العدوّ الصهيوني. قرار الصمود والمواجهة يرتّب كلفة مادّية وبشرية قد تكون كبيرة، ولنا مثال على ذلك ما نراه في فلسطين اليوم وفي الجنوب اللبناني، ولكن كلفته لا تقارن بما دفعناه في الحرب الأهلية اللبنانية، والتي لم تكن يوماً منفصلة عن أهداف المشروع الصهيوني لتطويع المنطقة عبر إنهاكها وحرفها عن المسار الحقيقي للصراع.

علينا أن نعي أنّ كلفة الفتنة أكثر فداحة بأضعاف من كلفة المواجهة، وفيما تؤدّي الأولى إلى ضياع المجتمع وتفتيته، تؤدّي الثانية إلى وحدة مجتمعية تؤسّس لبناء وطن حقيقي لأولادنا.الأخبار اللبنانية