+ A
A -

مدخل هذا المقال ينطلق من مسارين، الأول واقع الدول الإفريقية الجديد، بين استمرار المعاناة في الأوضاع الصعبة، بل والكوارث القائمة أولاً على عدم الاستقرار السياسي، في ذات الوقت الذي تطمح فيه هذه الدول إلى الانتقال إلى عالم تنمية فعلي، يستقل عن الارتهان بسياسة المستعمر القديم، مع أن هذه الشعوب لا تمانع من تنظيم جسور التعاون مع دول الإرث الاستعماري القديم.

ولكنها تشترط، وهو حقٌ مطلقٌ لها، أن يكون وفق إدارة ندية، وشراكة اقتصادية يدير عبرها البلد الإفريقي ثروته، ويُنظم عقوده لا أن تستولي الدولة أ أو ب من منظومة الاستعمار الغربي، على كل حصيلة الوطن الإفريقي، ثم تُدرجه قهراً عبر قوتها السياسية وفي سياجها الثقافي، كمرتهن لهويتها لا هويته القومية.

ومع الأسف الشديد والألم المروع، أن بعض أسباب هذا السقوط والانهيارات السياسية، في إفريقيا ذاتية في مجتمعاته، ولسنا في بقية الشرق المسلم وأقصد به الشرق بتعريفه الفكري لا الجغرافي، بحال أفضل من أشقائنا في إفريقيا، مسلمين وغير مسلمين، تجمعنا معهم أحلام مبادئ التحرر والتمكين والنهضة التنموية والتعليمية معاً.

ولا نعرف مع تحول منظومة بعض هذه الدول نحو موسكو، هل يضمن ذالك استقرار نسبي بحكم اختياري حر، أم أنهُ سيشهد اضطرابات عديدة، ولذلك قلنا إن الآفة الذاتية في المجتمعات والشعوب، من صراعات قبلية واستقطابات فئوية، فرخّت جسوراً للاستبداد في أفريقيا، ثم مكنت للمزارع المشتركة، مع الإرث الاستعماري، فعادت أحداث الفوضى تضرب في جسد افريقيا وأبنائها.

فهنا يبرز لنا ما الذي يعنيه لنا التقاط كل مساحة استقرار، لخلق بيئات مستدامة من الجغرافيا، والشرائح الاجتماعية المتعددة، يؤسس لهم فيها مشاريع تعليم وورش نهوض نوعية، ستبدأ بالتأكيد من خلال التعليم الموجه، وبسط ثقافة التقدم وتشجيع فرص العبور، لخلق جيل يجمع بين اسلامه وإيمانه الأفريقي، ويشكل طبقة نهضة صاعدة للجيل القادم، تمثل مستقبلاً مجتمع الدولة ذي المسؤولية، وتساهم رؤيتهم ووعيهم في وقف التدهور والصراعات، وتحويل الروح الجماعية، نحو تشجيع التنافس العلمي والتأهيل الفكري، الذي يبني الأوطان، ويجمع شتات شملها.

وحين نعيد النظر في واقع أفريقيا اليوم، تبرز لنا دولتان ذات أهمية فارقة، لكن قبل أن اتحدث عن هاتين الدولتين، فأود أن أشير لأهمية السودان الجريح، المغدور من الشقيق العربي والجوار الأفريقي، وأن هذا المشروع الذي أبسطُ الحديث عنه، السودان أولى به أيضاً كطرف ثالث، وهو من أبرز محطاته، لذاتية السودان نفسه، ولما يمثله من رابطة عميقة بين العرب وبين أفريقيا المسلمة وغير المسلمة، الباحثة عن طريق الحياة الجديد، ولقد سبق للسودان أن مثل قنطرة فارقة، عبر مشروع الشيخ حسن الترابي رحمه الله، بغض النظر عن نقده وأخطائه، لكنه فتح بمبادرته بوابة كبرى للتعليم.

حج اليها شباب افريقيا من دولة عدة، وأسس في سبيلها أكثر من عشرين جامعة، مثلت فارقاً نوعياً مهماً، لمعنى العطاء والمصير المشترك الذي تمثله الروح الإسلامية الإنسانية مع الضمير الأفريقي، رغم ضعف إمكانية السودان.

ولكننا نبتهل إلى الله أن يخرج السودان منتصراً، ليس في قوته العسكرية المهمة فقط، ولكن في روح مشروع الوطن الجديد، الذي يتجاوز إرث الانقسام وفتنة الصراع الأخيرة، التي حركها الخارج، أو التي نمت واشتعلت، بين أقاليم وشرائح الاتجاهات الفكرية السودانية منذ الاستقلال، فيُشرق الوطن بميلاد جديد، وحتى تتحقق هذه الأمنية على الأرض ويخرج السودان من الحرب، نؤجل ترشيحه المهم لمحطات هذا المشروع.

لقد كنتُ أتأمل في خطاب صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، وفي رسائلها في اتجاهين، الأول نحو ثمرات الخريجين في مشاريع مؤسسة قطر، والثاني تصريحاتها النقدية الخاصة، في عالم ما بعد غزة، والذي قدّمت فيه قطر كدولة ومؤسسة قطر على الخصوص، مبادرات نوعية لدعم مساحة التعليم والثقافة، لصالح الإنسانية المحرومة، عبر اليونسكو والمنظمات الأممية الأخرى.

وكانت مشاعر الشيخة موازا مشتركة بين الألم والغضب، لعجز هذا المجتمع الدولي عن القيام بواجباته لحماية المشاريع الإنسانية، وفضيحة شراكته السياسية والعسكرية، بل حتى الثقافية، في مشهد محرقة غزة القائم، والذي دمرت كراهيته النازية مشاريع مؤسسة قطر، وبقية المشاريع التنموية التي قدمها المحسنون والمتضامنون العالميون، في سبيل دعم الشعب الأسير.

فعادت الآلة والشخصية الإرهابية الإسرائيلية لتدميره، بل وقتل مهج الحياة من أطفالنا وشبابنا من الجنسين، الذين كانوا زهور الأرض، وبسمة الأمل فقضت عليهم ثقافة الحداثة نفسها التي دعمت آلة الحرب، وهي تُبرّر لنا طيلة عقود قصة انسانيتها المزعومة، وأمام ذالك التساؤل الاحتجاجي للشيخة موزا، قفزت لدي منظومة رأي آخر، سأبسطها في مقال قادم بعون الله.

copy short url   نسخ
21/07/2024
25