+ A
A -
د. جمال حسن عتموري محام وكاتب

إبان حرب الخليج الأولى كنت أعمل سائق شاحنة في شركة كبرى تعمل في مجال نقل المواد البترولية من العراق إلى موانئ بالبحر الأبيض المتوسط للتصدير، وفي تلك الأيام كان العراق يعاني من الحصار وأجد صعوبة في إيصال المصروفات الشهرية إلى أهلي في السودان، وكانت التحويلات تتم باسم شقيقي الطالب بالجامعة آنذاك ليقوم بالذهاب إلى قريتنا حيث تقيم زوجتي وأم طفلتي مع أبويها ليسلمها معاشها والاطمئنان عليها في غيابي، وحدث في مرة أثناء عبوري أطراف إحدى العواصم أن لفت انتباهي جنوح حافلة على جانب الطريق ومجموعة من البنات والأولاد يلوحون لي للتوقف، وما أن فعلتُ وترجلتُ من كابينة الشاحنة حتى أدركت الحالة التي كانوا عليها من الإعياء والتوتر بسبب تعطل حافلتهم ونفاد مخزونهم القليل من الماء والطعام، وقد كانت الخطوة الإسعافية الأولى والملحة أن جلبت لهم ماء وحلويات من ثلاجة الشاحنة، وفي الخطوة الثانية فتحت غطاء محرك الحافلة لأتبين من الوهلة الأولى سبب العطل وأبدأ في إصلاحه، وخلال زمن وجيز أخذ المحرك في العمل وسط صيحات الفرح وعبارات الثناء وشيء من السخرية مع ضحكات مكتومة بحق السائق الذي كان يقف بعيداً كأن الأمر لا يعنيه.

قبل استئناف الرحلة تقدمت نحوي فتاة كانت تفوق في هيئتها كل الأخريات في الجمال والأناقة وربما في الوضع الإجتماعي أيضاً، وتكلمت معي بهدوء وثقة معرفة نفسها بأنها «دلال» وأثنت على ما قمت به اتجاههم، وذكرت أن من بالحافلة طلاب بكلية طب جامعة الخرطوم ضمن قافلة علمية وهم الآن في جولة ترفيهية خارج العاصمة، وأن السائق لم يفعل شيئاً حيال العطل الطارئ سوى قيامه بإخطار رئاسته وانتظار إرسال حافلة بديلة تأخرت كثيراً في الوصول لإنقاذهم، فحدثتني نفسي أن أنتهز الفرصة لأحملها مصروفات أهلي لتقوم بتسليمها لشقيقي في الجامعة، وبمجرد أن وضعت المبلغ في يدها ملفوفاً بورقة مكتوب عليها الاسم والعنوان علقت ضاحكة بأنه طالب في جامعة السودان، لكن ليست ثمة مشكلة في ذهابها إليه في جامعته لتسليمه إياه وهذا أقل شيء يمكن أن تقدمه لي، فشكرتها ثم ودعتُ الجميع بعد أن كتبت لي عنوانها واسمها كاملاً وقد صدق حدسي حول خلفيتها الاجتماعية فاسم جدها معروف في تاريخ الاقتصاد الوطني.

بعدها لم أسمع شيئاً عن «دلال» وعقب غزو العراق بفترة بسيطة رجعت إلى السودان، وقبل أن أذهب إلى قريتي قادتني خطاي إلى كلية الطب لأجد نفسي في دوحتها أتلفت في جميع الزوايا سائلاً عنها، وكانت الإجابة أنها قد أكملت دراستها الجامعية وحالياً تعمل في مستشفى الخرطوم، ولم يكلفني الأمر شيئاً سوى عبور الشارع لأجد نفسى في أروقة المستشفى، وما أن علمت إحدى زميلاتها بأمري حتى طلبت مني أن أذهب على عجل إلى إحدى البوابات لأن سائق من أقصدها ينتظرها في هذه الساعة ليقلها إلى بيتها، ولا أدري إن كنت أسير أم أركض ففي لمح البصر أدركتها وهي تهم بالصعود إلى السيارة، وبصوت أسمع كل من حولها هاتفتها قائلاً: «دلال»!، فالتفتت نحوي في عجب وتفرست في وجهي مسافة إلى أن استدركت ملامحه، وهنا رحبت بي بلطف واهتمام طاغ وقامت بمنحي وقتاً كافياً لتبادل الحديث والسؤال عن أحوالي، ولما علمت بأني ذاهب إلى قريتي طلبت مني أن أجلس بجوار السائق وأمرته بأن يعرج بي إلى محطة الحافلات قبل التوجه إلى البيت، وفي الطريق كانت تحكي بمرح عن مواقف سائق الحافلة المتعجرف إلى أن وقفت السيارة في المحطة فهبطت منها بعد أن وعدت مضيفتي بزيارتها عقب عودتي من القرية السبت القادم.

في السبت الموعود وجدتها في انتظاري وكانت ودودة وفي غاية الانشراح مما شجعني على أن أُقدم على خطوتي الجريئة بأن طلبت يدها للزواج دون أية مقدمات، ويبدو أنها قد تفاجأت قليلاً لكنها تمالكت نفسها وردت بلا مواربة برفض طلبي لأنها ستطير إلى لندن في غضون يومين لتبدأ التخصص الذي يتطلب تفرغاً لمدة طويلة تجعل أمر الزواج ليس من أولوياتها خلال هذه المدة، فقلت لها بصدق: سأنتظرك يا «دلال»!، وفي هذه اللحظة توقف محدثي عن الاسترسال في سرد حكايته عندما داس فجأة على الفرامل بقوة أمام ركشة مرت خاطفة أمامه، وقبل أن يكمل شتيمته لصاحبها عبر نافذة سيارة الأجرة التي يقودها وأنا أجلس بجواره ثم يستأنف حديثه معي، كنت قد وصلت إلى مبنى عيادة سنيرتنا الدكتورة «دلال» التي يعمل بها زميل لي أثناء وجودها في لندن وفي بعض الأحيان يستدعيني لأسد مكانه، فقلت له دون أن أخبره بهذه الحقيقة: حسبك فقد وصلتُ، فقال لي بعد أن رفض بإصرار أخذ أجرته: هذه نمرة تليفوني يا دكتور وأنا تحت الخدمة، وإذا تعرفت على «دلال» أرجوك أن تذكرني أمامها بالخير وتشجعها على الزواج بي لأنها لن تجد من يقدرها أكثر مني فقد وهبها الله كل شيء؛ الجمال والعلم والنسب والمال.. فماذا تريد غير ابن الحلال؟!.

copy short url   نسخ
23/07/2024
10