+ A
A -
صقر أبو فخركاتب عربي

هل ما زالت جامعة الدول العربية منظمة قابلة للحياة؟ أم أن صلاحيتها انتهت حقاً إما بمرور الزمن أو لعدم فائدتها؟ انتهى عصر التجمعات السياسية الإقليمية العربية، مثل مجلس التعاون العربي (العراق ومصر والأردن واليمن) واتحاد المغرب العربي، وها هي الأزمة السورية تحوّل جامعة الدول العربية إلى زائدة ليس لها فائدة. ومع ذلك، يحلو لكُتّابٍ عربٍ كثيرين أن يجعلوا من جامعة الدول العربية دريئة يطلقون عليها سهامهم، ويحملونها مسؤولية انحطاط الأحوال السياسية للدول العربية، أو على الأقل الإسهام في هذا الانحطاط. ولا ريب أن الجامعة، كشخصية اعتبارية، تتحمل بعض المسؤولية، لكن مسؤوليتها تلك تبقى محدودة ومحددة في نطاق السلطات الممنوحة لها، وهي قليلة جداً؛ فالقاعدة تقول «إنك لا تستطيع أن تأخذ بيضاً من السلّة أكثر مما تضع فيها». وبهذا المعنى، فإن جامعة الدول العربية مرآة عاكسة لحال العرب، ولسياساتهم، وليست صانعة لها.

لا يتوانى الطاعنون في تاريخ جامعة الدول العربية عن تكرار الكلام على ارتباط تأسيس الجامعة بالسياسة البريطانية في أثناء الحرب العالمية الثانية، ويعيدون إنتاج المقولة المعروفة إن البريطانيين هم الذين أنشأوا هذه المنظمة الإقليمية العربية. ولنا في هذا الأمر إيضاح وتفصيل.

في 29 /‏3 /‏1940، أي في معمعان الحرب العالمية الثانية، أعلن وزير خارجية بريطانيا، أنطوني إيدن، وكانت بلاده تحتل آنذاك مصر وفلسطين والأردن والعراق، تصريحه: «إن كثيرين من مفكري العرب يرغبون في أن تتمتع الشعوب العربية بنصيبٍ من الوحدة أكبر من الذي تتمتع به الآن، وهم يأملون منا المساندة في تحقيق هذه الوحدة. لذلك لا يجوز لنا أن نهمل أي دعوةٍ يوجهها إلينا أصدقاؤنا العرب في هذا الصدد. ويبدو لي أن من الطبيعي، ومن الحق أيضاً، أن تتوثق الروابط الثقافية والاقتصادية والروابط السياسية بين الدول العربية. وبناء عليه، ستساند حكومة جلالة الملك، مساندة تامة، أي مشروعٍ تتم الموافقة عليه في هذا الصدد».

لم يتنبه أحد في أوروبا، أو في العالم العربي، لهذا التصريح وأبعاده، واعتقد بعض ساسة العرب أنه مثل «الكتاب الأبيض» لسنة 1939 الخاص بالشأن الفلسطيني، مجرد إعلان، ومن غير المحتمل أن تترتب عليه أي سياسة جدية. وحين بدأ العالم يكتشف أن دول المحور سائرة إلى الهزيمة، وأن دول الحلفاء ستخرج من الحرب العالمية الثانية بانتصار كبير، عاد إيدن إلى تصريحه المشهور، ورغب في إعادة الحياة إليه، فأوعز إلى أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني (وهو من حزبه، المحافظين) بأن يوجه إليه سؤالاً في البرلمان عن الإجراءات التي اتخذتها بريطانيا لتحقيق التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول العربية.

وقد اغتنم إيدن هذه الفرصة ليجيب: «الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى أي حركةٍ بين العرب، تهدف إلى تعزيز الوحدة الثقافية والاقتصادية أو السياسية فيما بينهم. ولكن، من الواضح، أن الخطوة الأولى في هذا الصدد يجب أن يقوم بها العرب أنفسهم». وتلقف رئيس وزراء مصر في حينه وزعيم حزب الوفد، مصطفى النحاس باشا، هذا التصريح ليقف في مجلس الشيوخ المصري في 29 مارس/‏ آذار 1943، ويلقي بياناً عن فكرة إنشاء جامعة للدول العربية. وهكذا بدأ السعي العملي نحو تأسيس الجامعة، فعُقدت جولة المحادثات التمهيدية في قصر أنطونيادس في الإسكندرية برئاسة النحاس، وأمكن التوصل إلى بروتوكول الإسكندرية في 7 /‏10/‏ 1944، ثم وقع الجميع ميثاق الجامعة في 22/‏ 3/‏ 1945.

جاء تصريح أنطوني إيدن عن حاجة الدول العربية إلى علاقات أوثق في ما بينها قبل معركة العلمين التي اندلعت لاحقاً بين قائد جيوش المحور في شمال إفريقيا، الماريشال رومل، وقائد جيوش الحلفاء في المنطقة نفسها، الجنرال مونتغمري، في سباقهما للاستيلاء على قناة السويس. وكان إيدن يريد أن يستأثر بتأييد العرب في مواجهة الزحف الألماني. وهذا يعني، من جانب آخر، أن الأوضاع الخارجية الضاغطة على بريطانيا آنذاك قدمت للعرب فرصة سياسية مهمة، لكن ذلك لا يعني أن جامعة الدول العربية صنيعة بريطانيا؛ فألمانيا أيضاً وزعت الوعود والتحالفات على العرب، وتعهدت بتحقيق الوحدة العربية ومحق اليهود في حال انتصرت في الحرب، فأجابتها بريطانيا بوعودٍ مماثلة. وحدهم الفرنسيون كانوا أبشع أنواع الاستعمار، فما إن وطئت أقدامهم الأراضي السورية، حتى قسموها دولاً طائفية: دولة للعلويين وأخرى للدروز وثالثة للمسيحيين (لبنان) ودولتان للسنة في حلب ودمشق، وسنجق الجزيرة، وسرقوا لواء الإسكندرون وباعوه إلى تركيا.

تخفي هذه الصورة الكالحة إنجازات قليلة حققتها جامعة الدول العربية خلال اثنتين وسبعين سنة. إحداها رفض توصيات اللجنة الأنكلو – أميركية سنة 1946، والدعوة إلى عقد مؤتمر أنشاص في مصر في 28 /‏5/‏ 1946. وكذلك إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، ولولا زعامة جمال عبد الناصر لما أمكن الاتفاق على هذه المسألة. ويمكن العودة، في سلسلة الإنجازات، إلى لاءات مؤتمر الخرطوم في 1967 (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض)، وقرار وزراء البترول العرب استخدام سلاح النفط في حرب أكتوبر/‏ تشرين الأول 1973، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني (مؤتمر الرباط 1974)، ودعم دول المواجهة مالياً في مؤتمر القمة العربية في 1978.

لا تتحمل جامعة الدول العربية، كهيئة سياسية اعتبارية، مسؤولية الأحوال التي صار إليها العرب، على الأقل منذ هزيمة يونيو/‏ حزيران 1967، فالجامعة هي صورة العرب، ومرآة أوضاعهم، ومن المحال أن تكون مؤسستهم مقدامة وهم متراجعون، أو حرة وهم منقادون، أو مستقلة وهم ذيليون. وسيكون من الظلم أن نحمّل الجامعة أوزار دولها، وهي المؤسسة الأضعف بين المؤسسات العربية قاطبة.العربي الجديد

copy short url   نسخ
26/07/2024
15