لقد عرضنا سابقاً، موقف العالم الغربي من غزة إلى إفريقيا، ومصداقيته كمنظومة دول تَرعى المؤسسات الدولية، ولكنها خذلت الإنسان والطفولة، وحوّلت دعمها لجحيم يفتك بأطفال غزة، أو حروب تحرق أطفال ومجتمعات إفريقيا، وذكّرت بأزمة الوعي في الأوطان الإفريقية ذاتها، التي تُعتبر من أكبر معيقات النهضة، بل الإنقاذ.

وقلنا إن حديث صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، كراعٍ كبير لمشروع تنمية عالمي، لصالح الطفولة والتوجيه التنموي للمجتمعات، وتحميلها المجتمع الدولي (الغربي) مسؤولية هذا الانهيار، يخلق مساحة فكرة جديدة، آملُ أن تجدَ صداها لدى فريق المؤسسة المختص.

إن تحويل جزء من جهود المؤسسة التي لها في الأصل مشاريع شراكة في إفريقيا، ضمن مجهودات الدولة في قطر، إلى أن تُطلق مبادرة شراكة لبنية تنموية في دول الاستقرار، أخصص هنا فيها نموذجين مقترحين لا حصريين، وهما السنغال ورواندا، والثانية معروفة في نموذج استقرارها، أما الأولى فتَعبُرُ اليوم كدولة مدنية مسلمة، ضمنت الانتقال الديمقراطي السلمي مؤخراً، لتدخل بوابة مهمة للاستقرار السياسي، نأمل أن يتطور ويُعطي نموذجاً ملهماً لكل إفريقيا، وخاصة ونحن نشهد هذه العلاقات الجميلة بين مسلمي السنغال وغير المسلمين، والتنافس خارج إطار التحزب الديني، في سبيل تحقيق خطوة نوعية لنهضة دكار.

وعليه.. فإن تنظيم مشروع جزر تعليمية تنموية، تأخذ بالحسبان تقليص التكلفة، وتدريج المشروع، وخاصة عبر تحويل بعض الدعم المادي للمنظمات الدولية، بالتنسيق معها لأن هذه المشاريع لمؤسسة قطر، هي ضمن التعاون العالمي لكنه تحت إدارة المؤسسة.

وما أقصده هنا هو أن نجاح مشروع جزر قطر التعليمية، التي تستقطب بمنحها من داخل السنغال ومن خارجه، شباب إفريقيا في المرحلة الجامعية الأولى، سوف تخلق لإفريقيا، مؤسسات تنموية تساهم في جيل المعرفة الجديد، وتعزز لديه منظومة تسامح، وشراكة لا تخضع لشروط الحداثة الغربية، ولكن لقيم الإحسان الإسلامية بين الناس وفيهم.

ولا أقصد بهذا ترك المسؤولية لمساحة عشوائية، تُملأ بالعواطف ولا الخطاب الوعظي، ولكن عبر مشروع يُسلم إلى فريق من ذوي القوة الأمين، يُحسن إنجاز أرضية المشروع وأهليته العلمية والأخلاقية، وخطابه المفتوح لإنسان إفريقيا، والإنسان أينما كان، وحين اكتب هذه الكلمات، أشعرُ أنها تتفق مع مبادئ الشيخة موزا، وأملها الممتد، لتكون قطر رائدة نهضة تجديدية، لا تقليدية لصالح الماكينة الغربية.

إنني أدرك قوة مشاريع المؤسسة في قطر، وجامعاتها، غير أن استنساخ فكرة المدن الجامعية، بما يناسب بيئة إفريقيا، وبما يفتح مجالاً لخطاب الإنسان في الإسلام، هو بوابة حضارة، كل العالم يتعطش لها اليوم، وخاصة عالم الجنوب وبالذات افريقيا، ويتعزز حين ننظر إلى مسألة الموقع الجغرافي، ومساحة الحج إليه من غرب إفريقيا في السنغال، ومن شرق افريقيا ووسط جنوبها، إلى رواندا.

وعليه فإن هذه المدينة الجامعية في كلتا الدولتين (التي تبدأ بكليّة صغيرة قليلة التكلفة)، تُمثل محضن صناعة لفكر أخلاقي وتنموي جديد، حين يُحسن تشكيل مناهجه ويحتضن فريقاً تعليمياً مميزاً، يُدرك معنى النهضة في المشترك الروحي الأخلاقي.

فهنا يمثل المشروع انعطافة مهمة لصالح التعليم العالمي، غير المسيّس من قبل مصالح الغرب، والمحتسب من قبل مؤسسة قطر، في سبيل الإحسان الإسلامي والإنساني، ونحن نتحدث هنا عن مشروع تنموي خارج أي إستقطابات سياسية، تقوم به قطر مع المستقبل الجديد لإفريقيا، تستحق فيه نيل المشاعر النبيلة من الشعوب والمستفيدة، وتعزيز صورتها في الضمير الإفريقي.

ومن الأمور التي تمثل حالة استثمارية رشيدة، ومتفاعلة، هو أن تتحول المدينة الجامعية في رواندا أو السنغال، إلى قاعدة تستقطب الشخصيات الأكاديمية المستوطنة في أوروبا من أبناء إفريقيا، وذوي التخصصات والإبداع، وتجمعهم بجيل الشباب في المدينة الجامعية، دون أن يترتب على ذالك إقامة دائمة، ولكن مواسم فصول تعليمية دورية، تسمح لهذه الشخصيات العديدة، في الجامعات الغربية، من المساهمة في صقل العلوم والتنمية للشباب الصاعد حديثاً.

وهذا يشمل العلوم الإنسانية وغيرها، غير أن العلوم الإنسانية، ونظرية المعرفة الأخلاقية الجديدة، تُمثل أحد المبادئ التي يحتاجها العالم الأخلاقي الذي تحتاج إلى ميلاده البشرية، كما أن فكرة استثمار ثروات ومعادن افريقيا، ودعم المدينة الجامعية المقترحة لهذه المشاريع، كوقف يساهم في تحقيق نقلة نوعية لصالح اقتصاد التحرر والتنمية المستدامة، هو أيضاً احد المخرجات التي ممكن أن تتحقق في المبادرة.

إنني ادرك صعوبة إنجاز هذا التوجه، والدخول فيه، كما أفهم تكلفته الكبيرة، غير اني أعتقد أن هذه التكلفة لو وُضعت عند فريقٍ أمينٍ متقن، قد تكون أكثر جدوى اقتصاديا من غيرها، ولا أقصد التحول الشامل، ولكن وضع بعض الاستثمار في سلة إفريقيا التي تهدي ثمرتها قطر، وترتد عليها بركتها.