احترفَتْ الصهيونية صَنْعَةَ تزييف التاريخ وتأويل النصوص التوراتية؛ قبل أن تعّبثَ بالجغرافيا، وتحتل أرض فلسطين!، متعلقةُّ بالخرافات الأربع، وهي: فلسطين دولة يهودية منذ أكثر من 3000 سنة -وأن الله أعطاهم هذه الأرض، لأنها ذُكرت في النصوص المقدسة التوراتية- وأن فلسطين لم يكن لها كيان سياسي قبل (عام 1917م.) – وأنه في زمن النكبة (عام 1948م)، نزح الفلسطينيون من تلقاء أنفسهم- وأن إسرائيل لم تخض يوماً حرباً إلا دفاعاً عن النفسِ. وعليه فقد ظلت المظلمة الفلسطينية مجمدة لعقودٍ زمنية طويلة. حتى جاءت اللحظة التي طال انتظارها؛ فملأت محكمة العدل الدولية الفراغ، الذي شكلته السياسة. وأصدرت رأيها الاستشاري التاريخي؛ لتؤكد المؤكد، وتصف الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بالباطل- للمرة الأولى-، وتلزمه بالانسحاب، وتنتصر للقانون!.

وبدأت حكاية هذا الانتصار القانوني، مع انضمام فلسطين لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، وحصولها على صفة عضو مراقب بمنظمة الأمم المتحدة. عندما تولى فريق من الخبراء الفلسطينيين في (عام 2011م.)، مهمة جمع الأدلة، عن حقبة كانت آنذاك قد اقتربت من النصف قرن على الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين. وتم إعداد ملف من 4500 صفحة، وتقديمه إلى الجمعية العامة للمنظمة الأممية؛ التي طلبت فتوى قانونية من محكمة العدل الدولية في «لاهاي». وكعادتها – هذا ديدنها-، حاولت القوى الصهيونية التشكيك في عدم اختصاص المحكمة بنظر مثل هذه المسألة؛ وكأنها تتناسى أحكام الميثاق الأممي - دخل حيز التنفيذ في 24 أكتوبر 1945 -، ومادته 96: «لأي من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل الدولية إفتاءه في أية مسألة -قانونية أو سياسية-».

وتلقت «العدل الدولية» القرار، الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر (عام 2022)، لتقول فيه رأيها الاستشاري القانوني، والإفتاء بشأن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين منذ (عام 1967م.)، وحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وقد استنتجت هيئة المحكمة، وبإجماع كافة أصوات الأعضاء- ما عدا العضو الإسرائيلي-، وفي رأي تاريخي، يوم 19 من شهر يوليو الجاري: عدم قانونية احتلال إسرائيل لأرض فلسطين، وبالتالي وجوب إنهاؤه سريعاً. مع إلزام إسرائيل بالوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة، وإجلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذا بجانب التزام الدول أعضاء بالأمم المتحدة، في عدم الاعتراف بشرعية هذا الوضع القائم للاحتلال، ولا تقدم له العون، أو المساعدة؛ الذي من شأنه أن يحافظ على هذا الوجود غير القانوني للاحتلال..وتاريخياً؛ فقد أثبتت كافة التجارب السابقة، أن طبيعة أي احتلال - وإن طال الزمن به-، فهي مؤقتة ولابد من أن يأتي يوم ويزول. الأمر الذي يجعل قرارات الكيان الصهيوني بمصادرة أراضي الفلسطينيين، وإعادة تخصيصها للمستوطنين؛ تكشف حقيقة المؤامرة الصهيونية؛ التي ترمي إلى تغيير المعالم الجغرافية، والديموغرافية. ويأتي كل ذلك في سياق عمليات تزييف مستمرة للواقع منذ بداية الاحتلال؛ وحتى القوانين الفلسطينية ذاتها، لم تسلم، أو تكن بمنأى عن هذا العبث. حيث استبدلها المحتلُ بتشريعات إسرائيلية؛ بما لا يتفق والمادة 43 من أنظمة لاهاي (لعام 1907م.)- تفرض على المحتلُ المحافظة على القوانين المطبقة في البلد الواقع تحت الاحتلال، وعدم تعديلها-. وكذلك المادة 64 من اتفاقية جنيف الرابعة (لعام 1949م.)- تبقى التشریعات الجزائیة الخاصة بالأراضي المحتلَةْ نافذةُّ-؛ بل وحتى المادة 66 من ذات الاتفاقية؛ والتي اشترطت لمحاكمة المتهمين من الشعب الواقع تحت الاحتلال، أن تُعقد له المحاكم في داخل وطنه.

وبعد مضي أكثر من سبعة وستين عاما؛ فما زال المواطن الفلسطينِي، يبحث عن الوطنً المفقودُّ!. وقد ظل على مدى عقود زمنية طويلة حائراً بين أروقة ودهاليز المنظمات الأممية، والإقليمية؛ وحتى «اتفاقية أوسلو»، بمرحلتيها– الأولى في سبتمبر عام 1993، والثانية – في سبتمبر عام 1995-، كأول اتفاق مباشر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم تكن سوى «وهمُّ». وما تبقّى منها، مجرد آلية إسرائيلية للسيطرة على شعب فلسطين، وبأقل أعباء وكلفة مادية، أي «شبه مجانية». حيث تم الحدّ من الانتشار العسكري الإسرائيلي، ورُفعت عن كاهله مسؤولية إدارة الاقتصاد في الأراضي المحتلة؛ وإن كان ظلَ كسلطة سياسية مسيطراً ومتحكماً في مفاصل الحياة. فضلا عن عملية التفكّك الجغرافي لأراضي الضفة الغربية، مع التقسيم الإداري للمناطق «أ، ب، ج»، وفصلها عن قطاع غزة والقدس الشرقية.

وحسناً فعلت «العدل الدولية»، في تذكير الاحتلال الإسرائيلي، بألّاَ يتخذ من «اتفاقية أوسلو»، غطاء لالتهام أو السيطرة على الأراضي الفلسطينية بالقوة، تحت ذرائع المخاوف والاحتياجات الأمنية. وأنه من حق الشعب الفلسطيني أن يقرر مصيره بنفسه، وهو حق غير قابل للتصرف؛ ولا يمكن أن يخضع لأي شروط. ومن حق الفلسطينيين أن يحصلوا على التعويضات العادلة من الكيان الصهيوني، عن كل أفعاله غير المشروعة، ورد كل ما استولى عليه، بما في ذلك الأصول الثقافية منذ (عام 1967م.)؛ بل وإلزامه بتفكيك جدار الفصل العنصري. وبات على الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، بحث الإجراءات اللازمة لتفعيل «الرأي الاستشاري» وانتصار «العدل الدولية» للقانون، ووضع نهاية لوجود إسرائيل غير القانوني على أرض فلسطين المحتلة.

حقاً، كان انتصار «العدل الدولية» للقانون، ودحض الأكاذيب التاريخية، والتأويلات التوراتية الصهيونية، في أحقية الاحتلال الإسرائيلي بالوجود على أرض فلسطين، محركاً للمياه الراكدة، وفرصة للعالم، لإلقاء نظرة عن قرب للمشكلة؛ إلا أن «الرأي الاستشاري للمحكمة» وحده لا يكفي، إذ يجب البناء عليه، وتفعيله. وهذا يحتاج تحرك عربي إسلامي فاعل على الساحة العالمية؛ لممارسة مزيد من الضغوط على الكيان الصهيوني، وتحذير الدول التي تتعامل مع الاحتلال والمستوطنات، بأنها سوف تكون مخالفة وخارقة للقانون الدولي، وتُعدَّ شريكاً للاحتلال، وسوف يتم ملاحقتها أمام المحاكم الدولية. وأنه لا سلام ولا استقرار في المنطقة والإقليم؛ إلا باستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة، على أساس حل الدولتين، وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس.Moiharby1968@yahoo.com