نحن الآن في مايو/‏ أيار من عام 1997، وتحت أنظار وسائل الإعلام، ينتظر بطل الشطرنج الروسي الشهير غاري كاسباروف مواجهة خصمه الخارق للمرة الثانية؛ خصم لم يواجه مثله من قبل، ببساطة لأنه ليس خصمًا بشريا! في هذه المباراة كان خصمه جهاز الحاسوب الخارق «ديب بلو» الذي طورته شركة «آي بي إم» بهدف تعلم لعبة الشطرنج وإتقانها وهزيمة بطل العالم في ذلك الوقت.

بدأت المباراة وسط ترقب الجميع، فاز كاسباروف بالجولة الأولى، ثم خسر الثانية، وتعادل في الجولات الثلاث التالية، ولكن عندما انتصر «ديب بلو» في المباراة بالفوز بالجولة النهائية رفض كاسباروف التصديق؛ ليدخل «ديب بلو» التاريخ بوصفه أول حاسوب يهزم بطلا عالميا في مباراة من 6 جولات تحت ضوابط وقت قياسية.

أشعلت تلك المباراة ثورة تقنية جديدة، وظهر معها توقعات وتأويلات بأن الآلة على وشك هزيمة الإنسان. نعرف الآن بالطبع أن هذا لم يحدث، وأن حاسوب «ديب بلو» لم يعتمد على مفهوم الذكاء الاصطناعي أو تعلم الآلة، ولكنه كان مجرد منفذًا للأوامر البرمجية ومعالجًا لكمية ضخمة من البيانات بهدف إنجاز مهمة محددة هي هزيمة بطل العالم في لعبة الشطرنج.

نعود الآن إلى الحاضر، وبعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمان، أصبحنا على أعتاب ثورة جديدة في عالم ذكاء الآلة، وهذه المرة ثورة حقيقية في تطور مجال الذكاء الاصطناعي. التطور الحالي قد يقودنا إلى ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي العام «إيه جي آي» (AGI)، من خلال تطوير نماذج جديدة تعرف باسم «وكلاء الذكاء الاصطناعي» (AI Agents) التي يمكنها التفاعل مع البشر بأساليب معقدة، ويمكنها اتخاذ قرارات بصورة مستقلة في مجموعة مجالات متنوعة. ما بدأ بمباراة شطرنج بين بطل العالم وحاسوب خارق أصبح الآن جزءًا لا يتجزأ من كل تفاصيل حياتنا، وهذا يطرح سؤالًا مهما: كيف وصلنا إلى هنا؟

وكلاء الذكاء الاصطناعي

تسعى أوبن إيه آي، وغيرها من الشركات الكبرى في المجال، بكل جهدها للبحث عن منتج طموح آخر يمكنه أن يصبح ثوريا في المستقبل القريب، تمامًا كما فعل روبوت «شات جي بي تي» منذ بداية انطلاق رحلته. لذا، تعمل الشركة على تطوير اثنين من نماذج وكلاء الذكاء الاصطناعي بهدف أتمتة كل مهام العمل تقريبًا، بخاصة العمليات المعقدة، وهذا يقلل الاعتماد على العنصر البشري في هذه العمليات، وفقًا لتقرير صدر من موقع «ذا إنفورميشن» في شهر فبراير/‏ شباط الماضي.

وفي مؤتمر «بيلد 2024» الذي تنظمه مايكروسوفت سنويا، كان أحد أهم الإعلانات هو تطوير المساعد الذكي «كوبايلوت» ليصبح ضمن وكلاء الذكاء الاصطناعي، إذ صممت الشركة هذا المساعد بأسلوب جديد يغير من شكل الأعمال عبر أداء المهام التي تتطلب عادة تدخل الإنسان. وبعكس الإصدارات السابقة، لن تظل نماذج وكلاء الذكاء الاصطناعي الجديدة في انتظار أوامر المستخدم، بل يمكنها إدارة المهام بصورة استباقية مثل مراقبة البريد الإلكتروني وأتمتة إدخال البيانات على جهاز المستخدم.

وفي هذا السياق، تصور تشارلز لامانا، نائب الرئيس التنفيذي لتطبيقات الأعمال والمنصات بمايكروسوفت، سيناريوهات يتولى فيها «كوبايلوت» استفسارات مكتب خدمة تكنولوجيا المعلومات بالشركة وتوجيه الموظفين الجدد، وغيرها من المهام. فمثلًا يمكن للمساعد الذكي «كوبايلوت» أن يستقبل موظفا جديدا في الشركة ويساعده في تسجيل بيانات الموارد البشرية، ويجيب عن أسئلته، ويعرفه بزملائه في الفريق، ويوفر له جداول التدريب، ويحدد له الاجتماعات خلال الأسبوع الأول، إذ ستتيح أتمتة تلك المهام لموظفي الموارد البشرية التركيز على مهام أكثر استراتيجية وتعقيدًا.

وكذلك في مؤتمر غوغل آي/‏أو الماضي، عرضت الشركة نسخة أولية لما تأمل أن يصبح المساعد الشخصي الشامل، وأطلقت عليه «مشروع أسترا» (Project Astra)، وهو مساعد ذكي متعدد الوسائط يعمل بالذكاء الاصطناعي في الوقت الفعلي ليتمكن من رؤية العالم ومعرفة أماكن الأشياء وأين تركتها، كما بإمكانه الإجابة عن الأسئلة أو مساعدتك في القيام بأي شيء تقريبا، وهو نوع من وكلاء الذكاء الاصطناعي أيضًا، وهي روبوتات لا تكتفي بالردود على الأسئلة لكنها تنفذ المهام المختلفة نيابة عن المستخدم.

الهدف من تلك النماذج الجديدة التي تسعى لها شركات التقنية الكبرى هو تحويل منتجها الأساسي إلى مساعد شخصي ذكي وقوي يمكن أن يستفيد منه المستخدم في مختلف أمور عمله وحياته، ويساعده في تنفيذ معظم المهام التي كان يقضي فيها ساعات طويلة سابقًا. لذا، يبدو أننا نخطو نحو مستقبل سيتحول فيه «شات جي بي تي»، وغيره من تلك البرمجيات الذكية، إلى مساعد شخصي ينفذ مهام بأغراض عامة، بدلًا من استخدامه في مهام متخصصة، مثل كتابة المحتوى أو توليد الصور وغيرها. وبرأي بعض خبراء المجال، يمثل وكلاء الذكاء الاصطناعي خطوة محتملة نحو الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام. لكن لنفهم كيف يمكن أن يحدث هذا، علينا أن نشرح الأمر منذ بدايته!

استخدامات متعددة

تضم أنظمة الذكاء الاصطناعي مجموعة من النماذج، بدءًا من النماذج التأسيسية إلى النماذج اللغوية المتطورة ثم النماذج التي تتمتع ببعض الاستقلالية. أما النموذج التأسيسي فيمكن تعريفه بأنه نموذج لغوي مُجهز سابقًا، يتدرب على كثير من البيانات النصية المختلفة، ويُشكِّل الأساس الذي تعتمد عليه النماذج اللغوية الأصغر التي تُصمم وتُدرب لأداء مهام محددة، كالرد على الأسئلة مثلا. بهذه الطريقة يمكن بناء نماذج لغوية بدقة دون الحاجة إلى البدء من نقطة الصفر في كل مرة باستخدام النماذج التأسيسية الحالية، ومن أشهر أمثلتها نموذج «جي بي تي-4» الذي يعتمد عليه روبوت المحادثة «شات جي بي تي»، بجانب النماذج التي تُستخدم في توليد المحتوى المرئي مثل «ميدجيرني» و«دالي».

يأتي في المرحلة التالية الوكلاء المستقلون، أو وكلاء الذكاء الاصطناعي، وهي أنظمة متطورة أكثر، تقدم مستوى أعلى من التعقيد في معالجة المهام، وهذا يعني إضافة طبقات جديدة من الميزات والقدرات المتطورة في كل نموذج. والاستقلالية هنا تعني أن هذا النموذج قادر على الاستجابة للمؤثرات والمحفزات الخارجية دون الحاجة إلى تدخل بشري، بمعنى امتلاكه لإمكانية التكيّف والتفاعل مع مختلف الظروف والأحداث دون برمجة سابقة، بينما يعمل في الوقت ذاته بما يخدم الهدف الأساسي لمطوره أو المستخدم الذي يتحكم به..السمة المميزة لتلك الأنظمة هي قدرتها على العمل وفق حلقة برمجية مستمرة، لتوليد تعليمات وقرارات ذاتية باستمرار، لتتمكن من العمل باستقلالية دون الحاجة إلى التوجيه البشري المنتظم، كما الحال مع روبوتات المحادثة التي يجب أن تُدخل لها تعليمات مع كل سؤال لتمنحك الإجابة.

ينبغي ملاحظة أن هؤلاء الوكلاء المستقلين لا يتفوقون بالضرورة على النماذج التأسيسية عندما يتعلق الأمر بالمهام المحددة والبسيطة والمباشرة، ولكن ما يتفوقون فيه بدرجة أفضل هو تقسيم المهام المعقدة إلى مهام أصغر وتنفيذها وفق أقصى قدراتهم. وذلك لأن تلك النماذج التأسيسية فعالة وعادةً ما تكون دقيقة، ولكن يمكن التنبؤ بنتائجها، فمثلًا عندما تستخدم «شات جي بي تي» ستكتب له سؤالًا وتنتظر منه الرد في صورة نصية، ومن غير المحتمل أن يتصرف من تلقاء نفسه ويجيب بصورة أخرى، ثم سيتوقف بعدها في انتظار تعليماتك الجديدة. هذا عكس سلوك الوكلاء المستقلين، فغالبًا لا يمكن التنبؤ بأفعالهم، وبإمكانهم إنتاج سيناريوهات ومسارات عمل مختلفة والاختيار بينها لتحقيق الهدف النهائي الذي يرغب به المستخدم، وكل هذا دون الحاجة إلى تدخل منك بمزيد من التعليمات.