ليس لدينا آثار وثيقة عن أزمنة روما الأولى، ومالا يظهر لنا أن معظمها تروى من اقاصيص (..) وتدل العادات القائمة على وجود أصل لها في (الإمبراطورية الرومانية) وهو ما يدعم (الأدلة) وأنها يجب أن تكون صحيحة، وهذه هي القواعد التي حاولتُ اتباعها ببحثي عن كيفية ممارسة أكثر شعوب الأرض حريةً وقوة لسلطته العليا (روما القديمة).

جان جاك روسو (باختصار وتصرف طفيف)

مقدمة الفصل الرابع من الباب الرابع – العقد الاجتماعي

تحتاج أن تركز كل طاقتك للفهم والفرز عند وصول روسو، إلى الفصل الثالث والرابع من الباب الرابع، الذي يعنونه تحت الانتخاب، ثم يَعقبه بتاريخ مجالس الشعب الرومانية، فيتوسع روسو في عرض تصوره للنظام المرجح عنده، للعودة له كنموذج يعود له للوصول للمثال الأفضل للقياس عليه، لتحقيق حضور سلطة الشعب الجمعية، وحضور تصويته.

ودون أن نُركّز في المعنى المنتخب في عقل روسو، فإن سبيل الوصول إلى قاعدة واضحة في هذا المنعطف التاريخي الذي يتوسع فيه روسو، يتيه تحديد المعنى فيه، وقياساً على ذالك فإن روسو يعرض لتاريخ صناعة التصنيف الطبقي في روما القديمة، والتي قُسمت إلى عشائر متعددة، يُنظّم فيها حق التصويت العام، الذي اختصره (الكوميسات)، وهي حشود التجمعات العامة التي يدعى لحضورها، من كل عشيرة ومن أقسام كل عشيرة.

فيدلون باقتراعهم الذي كان علنياً، ويمارسون جميعا انتخاب الحكام، بحسب ما اختاره روسو من الرواية، وهي مصادر قصصية، وعليه فإن هذه الجموع الموحدة، يمر عليها التصويت، كما أنها حين تدعى لطروء حدث عاجل، تُباغت المشهد فتحسم فيه عبر الميدان.

يضيف هنا روسو من جديد مسألة البساطة في طبيعة المقترع أكان من طبقة الأشراف أو الفلاحين، أو طبقة رعاع روما، ومباشرتهم بأنفسهم، دون صلاحية علوية من السِنات، (السيناتور المختارين لمراجعة القوانين أو مجالس شؤون الدولة، في فترات مختلفة متعددة من التاريخ الروماني).

وعليه فروسو يجذبه بقوة هذا النوع، من التمثيل، ومن ممارسة السلطة العامة للشعب على القانون، أكثر من الهيئات الانتخابية (المعاصرة له)، ومن هنا نفهم تأرجح روسو المستمر، بين عرض متطلبات الديمقراطية الجديدة، التي تؤسس على عقده الاجتماعي، وبين تحفظه المستمر، على كونها تنتقي نخبة وتعزل عموم الشعب، وانها أي الديمقراطية ذاتها، لا يوجد لها أرضية جزم في تحقيقها الأمل العام، لدقة التمثيل وخيرية القرار.

كما أنهُ وكما ذكرنا في صدر الفصل، يستدعي التاريخ وطبائع الشعوب، لمطارحة واقعية يُفهم منها نزعات الصراعات، ومداخل الفساد والانحراف، الذي يطرأ على الدول، في ضمان قوتها، أو شفافية عدالتها.

وحرصتُ هنا على عرض هذه الخلاصة، حتى تساعدنا في فهم رؤية روسو، قبل أن نستعرض بقية بحثه الذي أشار له، وهو عرض تاريخي متصور من روسو، يقوم على فهمه لما ورد من مصادر قصصية عن روما القديمة، الذي ظل متعلقاً بها، وبرر هنا ذالك بنموذجها المتقدم، ونشير دوماً إلى أهمية فهم غضب روسو، من الفئات المنتخبة في مجالس الشعب، والتي تمثل بعض الطبقات، وموقفه من تلك النخب، التي سرد مآسيه، ورؤيته السوداء فيهم.

وفي انحطاطهم في عينيه، في (حديث المتنزه المنفرد بنفسه)، كما أن تاريخ جنيف وباريس، وصراع الطبقات الشرس لعب دوراً في انتخاب التاريخ المتخيل لروسو عن روما القديمة، ليس بالضرورة، نفي كل روايتها، ولكن لهذه الروح المتسلطة على روسو، في سؤال التمثيل للمجامع التي عاصرها من مجالس الشعب والمدن، والعزل الطبقي الشرس، الذي أشار له، وعايشه في قصة حياته الحزينة، وفي نبذه من دائرة التأثير الفكري، فضلاً عن التشريع الدستوري، وحصاره من نخب ثقافية معاصرين له، حتى من رفاقه.

فهذا المتخيّل عنده يقفز من وجدانه الداخلي، ويؤثر على رؤيته وحكمه، ودقة استنباطه.

وفي حين يؤيد روسو قول مونتسكيو، (إن التصويت بالقرعة (أي الاقتراع) من طبيعة الديمقراطية، فهو يتساءل فوراً، في قوله، ولكن بأي معنى؟

ثم يبرر ذالك، أن ليس الحكم عبر الديمقراطية حَقيقيُّة خيّرة (بالضرورة)، بل هي حمل ثقيل، لا يمكن فرضه بإنصاف على فرد آخر (فالاحتمال مختلف بين الناس)، غير أن قانون الاقتراع يحسم، ولن يكون هذا الاختيار الانتخابي منزهاً، لأنه غير مستقل عن أي إرادة بشرية، وبالتالي فنزعة البشر تحكم، ولكنها تطبق مقاربةً عبر القانون الجماعي.

هنا يبدو روسو جامعاً بين التحفظ، والترجيح، للأسباب التي ذكرناها، حيث يرى الانتخاب أقرب إلى ما يسميه الديمقراطية الصحيحة، ثم يُذكّر بقاعدته التي سجلها سابقا في العقد الاجتماعي، بأنه لم ولن توجد ديمقراطية صحيحة قط.