+ A
A -

لعل أكثر ما يدور في ذهن الأهل في وقتنا الحاضر هو فكرة تعليم أطفالهم المسؤولية والواجب منذ الصغر، حتى يكبروا وهم على معرفة تامة بما لهم وما عليهم في هذه الحياة من مسؤوليات وواجبات.

لهذا السبب يركز الأهالي في المراحل الأولى من عمر الطفل على تعليمه كل ما يتوجب عليه القيام به: تارة بأسلوب الترغيب، وتارة بأسلوب الترهيب. يأتي ذلك بالتزامن مع ورعونته الطفولية المقرونة بعدم إدراكه لحقيقة أن الحياة أعقد من الصورة التي تبدو عليها بالنسبة له؛ إذ يظن أن كل ما عليه فعله هو اللهو واللعب وتكوين الصداقات واستكشاف العالم من حوله، لا أكثر من ذلك ولا أقل.

إن المسؤولية عبارة عن سلوك يكتسبه الطفل منذ نعومة أظفاره عن طريق والديه ومجتمعه والحياة برمتها. ودور الوالدين هو تربيته على هذا السلوك معرفياً وعملياً، فتلك العملية ليست تلقينية وإنما لا بد أن يرافقها سلوك عملي يتعلم منه الطفل كيف يستثمر وقته بكفاءة ويدير حياته وماله بفعالية. أما الواجب فيتلخص في تلك السلوكيات المفروضة على الشخص بحكم عادات المجتمع وتقاليده والدور الذي يلعبه داخل الأسرة والمجتمع الذي ينتمي إليهما.

في الماضي القريب كانت السمة الوحيدة المشتركة التي يغرسها الآباء والأمهات في أبنائهم وبناتهم هي الإحساس الواجب وتقديسه. وقد تختلف الواجبات المفروضة على الفرد من أسرة لأخرى حسب طبيعة الأهل، لكنها في العموم تتبع لأعراف المجتمع وتفرض نفسها بقوة على الطفل الصغير الذي يصعب عليه استيعابها خصوصاً في مراحل عمره المبكرة؛ فيشعر تجاهها بالغضب الشديد خصوصاً إذا ألزمه أهله بها سواء اقتنع بها أم لم يقتنع.

ويزيد الطين بلة حين تصبح الواجبات المفروضة على الإنسان أمراً واجب التنفيذ لا يمكن تفنيده أو انتقاده أو فعله بدافع ذاتي محض، ليصبح الأمر أشبه بسيد يلقي أوامره، مقابل عبد عليه التنفيذ والطاعة دون أن يبدي رأياً أو يقرر بنفسه أن يقوم بذاك الفعل المطلوب عن طيب خاطر أو لا يفعله ببساطة شديدة!

من هذا المنطلق، تغدو الواجبات أمراً بغيضاً لمعظم الأطفال الذين يشعرون بسطوتها عليهم، ثم يكبرون وهم يحملون تجاهها مشاعر الكراهية التي تتغلغل في صدورهم شيئاً فشيئاً إلى أن يصير الواجب مع الوقت أمراً مقيتاً يتنصل منه الكثيرون، بينما يؤديه البعض بشق الأنفس دون أدنى رغبة داخلية وإحساس حقيقي بأهمية الإتيان به.

من الاهتمام بمن ربونا منذ الصغر حين يكبرون، إلى الوفاء بالواجبات الزوجية والأسرية، وصولاً إلى مساعدة الأقرباء والغرباء؛ كلها واجبات إنسانية يفترض أن نقوم بها بدافع الحب رغم أنها تندرج ضمن خانة الواجب في كثير من الحالات. لكن لأنها مفروضة بحكم أعراف المجتمع وتعليم الوالدين، لم نعد نرى من يقوم بتلك التصرفات بدافع المحبة الخالصة إلا ما ندر.

حين تربي الطفل على القيام بالأشياء من منطلق الواجب المفروض، فإنه يكبر وفي قلبه كراهية وحقد دفينين تجاه كل ما فرض عليه. بينما حين تربي طفلك على القيام بالواجبات بدافع الحب لا لأنها واجبة التنفيذ، فحينها يشرق قلبه بالمحبة والعطاء، فيؤدي واجبات ومسؤولياته من منطلق رغبة داخلية عميقة مقرونة بإحساس جميل بتقدير الذات والآخرين..توقفوا عن فرض الأقوال والسلوكيات على الأطفال لأن النتيجة ستكون عكس المتوقع لا محالة، بدلاً من ذلك علموهم كيف يقومون بواجباتهم ويقدمون المساعدة إلى الآخرين بدافع من الحب الخالص والإنسانية البحتة. بهذه الطريقة فقط تزرعون المحبة في تلافيف قلب الطفل، فينشأ جيل معطاء لا يبذل الغالي والرخيص في سبيل الأسرة، بل يبذل كل شيء في سبيل الفرد والوطن بدافع من الحب الدفين.

copy short url   نسخ
19/08/2024
40