لا يجادل اثنان في كون الدعوة إلى حوار الحضارات تُعتبر سمة من سمات النصف الثاني من القرن العشرين، وكأنما أدرك العالم بعد اكتوائه بلَظى حروب عالمية مدمرة؛ أنَّ البشرية لا تستطيع أن تتحمل حروبًا أخرى بعد أن حصدت ويلات كثيرة أسهمت في تفاقم المشكلات الجوهرية الكبرى التي ظل يعاني منها كلٌ من الغالب والمغلوب، لذلك بادرت جهات ومؤسسات كثيرة في العالم إلى تبني الدعوة إلى حوار الأديان والحضارات أملًا في الالتقاء على مبادئ موحدة وقواسم مشتركة بين أتباع مختلف الأديان والحضارات، لتكون كفيلة بفتح الطريق للتفاهم والتعاون والتعايش.
لقد دعت محافل ومنظمات كثيرة إلى حوار الأديان منذ الستينات من القرن المنصرم، ثم انتهى الحوار إلى أوراق نشرت في كتب وأذيعت في صحف لكنها لم تثمر نتائج ملموسة حتى الآن، وإذا كانت جهات غربية كثيرة قد دأبت على الدعوة إلى حوار الأديان والحضارات وفق شروط وضوابط معينة أملتها ظروف التفوق والاستعلاء الغربي، فإن الطرف الإسلامي خاصة في عصر الصحوة الإسلامية الراهنة لم يكن بعيدًا عن فكرة تنظيم مؤتمرات وملتقيات دولية -تمامًا مثل المؤتمرات التي نظمها مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان- لترسيخ آليات الحوار والتقريب بين الثقافات والحضارات من طرف مؤسسات ومنظمات ثقافية إيمانًا منها بأنَّ الحوار الديني والحضاري يعتبر مطلبًا إسلاميًا مُلحًا يدعو إليه القرآن الكريم وتبشر به السنة النبوية الشريفة.
بيد أن التفاعل الديني الحضاري لا يمكن أن يتم ويتحقق إلا عن طريق حوار بناء وفعال بين الأديان، وقد سبق لعالم اللاهوت الألماني هانس كينغ أن قال: «لا حوار بين الحضارات بدون سلام ولا سلام بدون حوار بين الأديان»، وإذا كان القرن الواحد والعشرون هو قرن الأديان بامتياز؛ كما قال المفكر والكاتب الفرنسي أندريه مالرو، فإن الدين قد أضحى منبع الثقافات وملهمها، ومنه تتأتى معظم خصوصيات الشعوب ومقوماتها، ويرمي إلى أن لا يظلم أحد حقًا هو له بسبب تميزه الديني عن الآخرين، كما يرمي إلى تحقيق العيش المشترك في عالم يسع الجميع مهما كانوا متباينين على المستوى العقائدي والثقافي والحضاري.
دُعيت منذُ أيام لحضور مؤتمر الدوحة الثالث عشر لحوار الأديان الذي نظمه على مدى يومين مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، وناقش المؤتمر ثلاثة محاور أساسية: الأول حول مفهوم حقوق الإنسان في الأديان، فيما يتناول المحور الثاني مواقف الديانات من انتهاكات الحقوق الإنسانية، ويربط المحور الثالث بين قضايا حقوق الإنسان في الشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
شخصيًا، أؤمن أن مثل هذه المؤتمرات التي تجمعنا في حلبات نقاش جادّة مع أتباع الأديان والأيدولوجيات المختلفة حول العالم؛ تُسهم في تقويض الفجوة بيننا وبين كُل ما يُسمى في الاصطلاح الدراج بـ «الآخر» فهو حتمًا ليس بعدو ولا نِدّ، فالأمر يتعلق باحترام بعضنا البعض، دون إنقاصٍ في حقّه الطبيعي في التدين.
إنَّ دولة قطر تعد الحوار والسلام جزءًا من سياستها الداخلية والخارجية، فهي حريصة على تعزيز قيم التسامح والتعاون ما بين الأديان والثقافات، كما تسعى لبناء مؤسسات وطنية تُعنى بنشر ثقافة السلام وقبول الآخر، ومحاربة التطرف ونبذ العنف على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، حيث تبنت دولة قطر من خلال الحوار سياسة نشر السلام ما بين الشعوب المتنازعة وبذلت جهودًا كبيرة لحلّ النزاعات عن طريق الوساطة استنادًا إلى ميثاق الأمم المتحدة.
قارئي العزيز، إنَّ الإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الأديان والحضارات ينكر المركزية الدينية والحضارية التي تريد للعالم دينًا واحدًا وحضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة في الأنماط والتكتلات الدينية والحضارية الأخرى، فالصحوة الإسلامية المعاصرة تسعى إلى أن يكون العالم «منتدى أديان وحضارات» متعدد الأطراف، ولكنه مع ذلك لا يريد للأديان والحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الدينية الحضارية القسرية، إنما تريد لهذه الأديان والحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند في كل ما هو مشترك إنساني عام، وإذا كان الإسلام دينًا عالميًا وخاتم الأديان؛ فإنَّه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى تسلُم (المركزية الدينية) التي تجبر العالم على التمسك بدينٍ واحد، إنه يُنكر هذا القسر؛ عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سُنَّةً من سُنن الله تعالى في الكون.
ورُغم كُل التُهَم التي تطال الجهود الحالية في الحوار الديني؛ خاصة الجهود المبذولة في مؤتمرات الحوار الديني وتوصياتها، والتي تُتَهَم بأنها تكرار واجترارٌ وتطبيل وتزمير لا فائدة منه، إلا أنني أجدني متفائلة، بل وأنتقد تلكَ النظرة الموغلة في السوداوية؛ حيثُ إنَّ وجود هذه الجهود المحلية والدولية تمُدُ يدًا رسمية نحو الآخر لتصافحهُ وتُقَرِّبَهُ من دائرة التواصل والتلاقي على جادةٍ قريبة مهما بدى لنا الأمر بعيدًا والتي وجدتُها شخصيًّا في التوصيات التي سبرتُها في هذا العرض التحليلي لإعلان الدوحة في مؤتمر الدوحة الدولي الثاني عشر لحوار الأديان أو حتى في غيره من المؤتمرات المماثلة، فالحقيقة أنَّ هذه الجهود ستحقق مآلاتها ولو بعد حين، وليس علينا هنا التقاعس ورَدّ كُل شيء، بل علينا التوصل لحل جذري لمسألة تجسيد هذه التوصيات التي تخرج منها مؤتمرات الحوار الديني في كل مكان؛ على أرض الواقع.
إنَّ تمتين كل حوار منشود بين الإسلام والغرب يقتضي إعادة طرحٍ جديد يُبنى على الوضوح ويلتزم بأخلاقيات الحوار، ويُعيد النَظَر في الأهداف والوسائل الموصلة إلى ذلك، ولن يكون هذا مجديًا في رأيي إلا إذا تمَّ توسيع قاعدة هذا الحوار ليصير حوارًا ثقافيًا مدنيًا، يشمل كل المكونات والفعاليات الثقافية في المجتمعين المتحاورين.
ويبقى الأمل العريض الذي ينبغي النظر إليه بتفاؤل من طرف أتباع الحضارتين الإسلامية والغربية هو أن حتمية الحوار الديني الحضاري؛ أمرٌ واقع لا محالة طال الزمن أم قصر، لأنه في نهاية الأمر لا بُدَّ أن تنتصر الإرادات والعزائم الساعية إلى إدارة الحوار الديني والحضاري بين الطرفين، وتفعيل العمل المشترك الذي يحركه الفهم والوعي المشتركان للمخاطر التي تحدق بالبشرية جمعاء.
{ إعلامية وباحثة أكاديمية - جامعة قطربقلم: خولة مرتضوي
لقد دعت محافل ومنظمات كثيرة إلى حوار الأديان منذ الستينات من القرن المنصرم، ثم انتهى الحوار إلى أوراق نشرت في كتب وأذيعت في صحف لكنها لم تثمر نتائج ملموسة حتى الآن، وإذا كانت جهات غربية كثيرة قد دأبت على الدعوة إلى حوار الأديان والحضارات وفق شروط وضوابط معينة أملتها ظروف التفوق والاستعلاء الغربي، فإن الطرف الإسلامي خاصة في عصر الصحوة الإسلامية الراهنة لم يكن بعيدًا عن فكرة تنظيم مؤتمرات وملتقيات دولية -تمامًا مثل المؤتمرات التي نظمها مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان- لترسيخ آليات الحوار والتقريب بين الثقافات والحضارات من طرف مؤسسات ومنظمات ثقافية إيمانًا منها بأنَّ الحوار الديني والحضاري يعتبر مطلبًا إسلاميًا مُلحًا يدعو إليه القرآن الكريم وتبشر به السنة النبوية الشريفة.
بيد أن التفاعل الديني الحضاري لا يمكن أن يتم ويتحقق إلا عن طريق حوار بناء وفعال بين الأديان، وقد سبق لعالم اللاهوت الألماني هانس كينغ أن قال: «لا حوار بين الحضارات بدون سلام ولا سلام بدون حوار بين الأديان»، وإذا كان القرن الواحد والعشرون هو قرن الأديان بامتياز؛ كما قال المفكر والكاتب الفرنسي أندريه مالرو، فإن الدين قد أضحى منبع الثقافات وملهمها، ومنه تتأتى معظم خصوصيات الشعوب ومقوماتها، ويرمي إلى أن لا يظلم أحد حقًا هو له بسبب تميزه الديني عن الآخرين، كما يرمي إلى تحقيق العيش المشترك في عالم يسع الجميع مهما كانوا متباينين على المستوى العقائدي والثقافي والحضاري.
دُعيت منذُ أيام لحضور مؤتمر الدوحة الثالث عشر لحوار الأديان الذي نظمه على مدى يومين مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، وناقش المؤتمر ثلاثة محاور أساسية: الأول حول مفهوم حقوق الإنسان في الأديان، فيما يتناول المحور الثاني مواقف الديانات من انتهاكات الحقوق الإنسانية، ويربط المحور الثالث بين قضايا حقوق الإنسان في الشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
شخصيًا، أؤمن أن مثل هذه المؤتمرات التي تجمعنا في حلبات نقاش جادّة مع أتباع الأديان والأيدولوجيات المختلفة حول العالم؛ تُسهم في تقويض الفجوة بيننا وبين كُل ما يُسمى في الاصطلاح الدراج بـ «الآخر» فهو حتمًا ليس بعدو ولا نِدّ، فالأمر يتعلق باحترام بعضنا البعض، دون إنقاصٍ في حقّه الطبيعي في التدين.
إنَّ دولة قطر تعد الحوار والسلام جزءًا من سياستها الداخلية والخارجية، فهي حريصة على تعزيز قيم التسامح والتعاون ما بين الأديان والثقافات، كما تسعى لبناء مؤسسات وطنية تُعنى بنشر ثقافة السلام وقبول الآخر، ومحاربة التطرف ونبذ العنف على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، حيث تبنت دولة قطر من خلال الحوار سياسة نشر السلام ما بين الشعوب المتنازعة وبذلت جهودًا كبيرة لحلّ النزاعات عن طريق الوساطة استنادًا إلى ميثاق الأمم المتحدة.
قارئي العزيز، إنَّ الإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الأديان والحضارات ينكر المركزية الدينية والحضارية التي تريد للعالم دينًا واحدًا وحضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة في الأنماط والتكتلات الدينية والحضارية الأخرى، فالصحوة الإسلامية المعاصرة تسعى إلى أن يكون العالم «منتدى أديان وحضارات» متعدد الأطراف، ولكنه مع ذلك لا يريد للأديان والحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الدينية الحضارية القسرية، إنما تريد لهذه الأديان والحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند في كل ما هو مشترك إنساني عام، وإذا كان الإسلام دينًا عالميًا وخاتم الأديان؛ فإنَّه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى تسلُم (المركزية الدينية) التي تجبر العالم على التمسك بدينٍ واحد، إنه يُنكر هذا القسر؛ عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سُنَّةً من سُنن الله تعالى في الكون.
ورُغم كُل التُهَم التي تطال الجهود الحالية في الحوار الديني؛ خاصة الجهود المبذولة في مؤتمرات الحوار الديني وتوصياتها، والتي تُتَهَم بأنها تكرار واجترارٌ وتطبيل وتزمير لا فائدة منه، إلا أنني أجدني متفائلة، بل وأنتقد تلكَ النظرة الموغلة في السوداوية؛ حيثُ إنَّ وجود هذه الجهود المحلية والدولية تمُدُ يدًا رسمية نحو الآخر لتصافحهُ وتُقَرِّبَهُ من دائرة التواصل والتلاقي على جادةٍ قريبة مهما بدى لنا الأمر بعيدًا والتي وجدتُها شخصيًّا في التوصيات التي سبرتُها في هذا العرض التحليلي لإعلان الدوحة في مؤتمر الدوحة الدولي الثاني عشر لحوار الأديان أو حتى في غيره من المؤتمرات المماثلة، فالحقيقة أنَّ هذه الجهود ستحقق مآلاتها ولو بعد حين، وليس علينا هنا التقاعس ورَدّ كُل شيء، بل علينا التوصل لحل جذري لمسألة تجسيد هذه التوصيات التي تخرج منها مؤتمرات الحوار الديني في كل مكان؛ على أرض الواقع.
إنَّ تمتين كل حوار منشود بين الإسلام والغرب يقتضي إعادة طرحٍ جديد يُبنى على الوضوح ويلتزم بأخلاقيات الحوار، ويُعيد النَظَر في الأهداف والوسائل الموصلة إلى ذلك، ولن يكون هذا مجديًا في رأيي إلا إذا تمَّ توسيع قاعدة هذا الحوار ليصير حوارًا ثقافيًا مدنيًا، يشمل كل المكونات والفعاليات الثقافية في المجتمعين المتحاورين.
ويبقى الأمل العريض الذي ينبغي النظر إليه بتفاؤل من طرف أتباع الحضارتين الإسلامية والغربية هو أن حتمية الحوار الديني الحضاري؛ أمرٌ واقع لا محالة طال الزمن أم قصر، لأنه في نهاية الأمر لا بُدَّ أن تنتصر الإرادات والعزائم الساعية إلى إدارة الحوار الديني والحضاري بين الطرفين، وتفعيل العمل المشترك الذي يحركه الفهم والوعي المشتركان للمخاطر التي تحدق بالبشرية جمعاء.
{ إعلامية وباحثة أكاديمية - جامعة قطربقلم: خولة مرتضوي