أخيراً أتى اليوم الذي ظن فيه رامون أرتاجفيتا أن خوفه من ركوب السفن تلاشى بعد ابتكار أعظم سفينة في التاريخ، وهو الذي تعرض في إحدى رحلاته لحادثة غرق سفينة نجا منها بأعجوبة، فظلت ذكريات تلك الرحلة المرعبة تلاحقه في أحلامه على امتداد أربعة عقود من حياته، حتى كتب عن ذلك مصرحاً أنه الآن بات قادراً على السفر وهو مطمئن بعد أن أصبحت سفينة تايتنك على أهبة الاستعداد.
وكانت سفينة تايتنك في الوقت الذي شيّدت فيه من أضخم السفن في العالم بأسره، إذ كانت أشبه بمدينة ومنتجع سياحي متنقل فوق مياه المحيطات، حيث بنيت لتستطيع حمل 3500 راكب، وصممت لتضمن كل سبل الراحة والرفاهية للمسافرين الأغنياء الذين يركبون على متنها.
وبعد أن صعد الأرستقراطي العجوز رامون أرتاجفيتا إلى متن سفينة الأحلام التي لم يشهد العالم مثيلاً لها وهو ممسك بعصا يتكئ عليها، والخوف يعتري كيانه وشيء من ذكريات الماضي يطارده ليعيد إليه تلك الذكرى المؤلمة التي حدثت قبل أربعين سنة على متن سفينة «أميركا» التي اندلعت فيها النار وهي وسط البحر، غير أن الحظ أسعفه فسبح حتى شاطئ بلاده القريب ونجا بأعجوبة من موت محتّم، ليكون من بين 65 من أصل 164 راكباً كُتبت لهم الحياة من جديد.
لكن تايتنك بعظمتها وضخامتها التي جعلت من سفينة «أميركا» لعبة أمامها أدخلت بعض الهدوء إلى نفس العجوز الذي عانى الأمرّين وهو يعيش حادثته المريعة مراراً وتكراراً على مر السنوات الماضية.
كان رامون راجفيتا ينحدر من عائلة عُرفت بريادتها للبحر، حيث أعطاه جده قبل أن يرحل عن الحياة مجدافاً وقال له: «إذا تعلمت كيف تستعمله فلن يعرف الجوع سبيلاً إليك أبداً، فأجدادك تمكنوا من العيش بفضل البحر، هذا هو قدرك، فاتبعه».
قرر العجوز أن يسير على خطا أجداده ويتبع نصيحة جده، فركب متن السفينة الجديدة لخوض رحلة طويلة تبدأ من بريطانيا الأرض التي لا تفارقها الشمس إلى الولايات المتحدة الأميركية أرض الأحلام، علّ كوابيسه تعلن استسلامها ويحلّ محلها أمل ونور جديد.
بعد ذلك، صعد أرتاجفيتا إلى كابينته الواقعة في الطابق الثالث وأغمض عينيه ليغط في نوم عميق. ثم قام بعد استيقاظه ليكتب رسالة ذكر فيها أنه مرّ من جميع الطرقات ليرى كل الغرف، حيث كانت الكراسي الجميلة جداً مصنوعة من الأشجار كما هو حال بعض الأثاث المصنوع بعناية، وصرح بأنه الآن بات قادراً على مشاهدة أيرلندا، ثم اختتم رسالته.
كان ذلك في أبريل من عام 1912م، حيث كان العجوز على موعد مع مصيره المشؤوم، إذ لم يتبق سوى بضع ساعات قبل أن تتحقق أسوأ كوابيسه وتصبح واقعاً. فعندما كان يجلس بصحبة رفقائه على سطح تايتنك، اصطدمت السفينة العملاقة على حين غرة بجبل جليدي ضخم، وبدأ البحر يكشّر عن أنيابه، فترددت كلمات الجد في أذني العجوز مرة ثانية «هذا هو قدرك» والذعر يملأ قلبه الذي أدمته الكوابيس لسنين طويلة، ثم جاء الواقع ليترجم تلك الأحلام إلى حقيقة مرّة، فشرع الماء المتجمد يخترق جسده الضعيف، وبات في مواجهة مع مصيره المحتوم.
تذكر في تلك اللحظات كم كان سعيداً باختراع رسائل التليغراف التي أخبر ابن عمه بأنها ستكون أداة تقي المسافرين من تكرار مأساة سفينة «أميركا»، مستهزئاً في قرارة نفسه من طريقة تفكيره الساذجة تلك؛ كم كان غبياً وقتها، فرسالة تليغراف لن تقف عائقاً في وجه الموت عندما يطرق الأبواب.
وأخيراً يغمض عينيه الحزينتين ويغادر هذا العالم بلا رجعة، وهو لا يعلم أنه سيصبح مضرب المثل في العصور اللاحقة، على أن أسوأ مخاوف الإنسان وكوابيسه قد تتحقق على أرض الواقع، وأن المثل الذي يقول: «اللي يخاف من العفريت يطلعله» لم يأتِ من فراغ.