+ A
A -
حسام شاكر باحث ومؤلف

منحت الفعاليات العارمة التي شهدتها القارة الأوروبية خلال حرب غزة انطباعًا محقًّا بتحوّلات طرأت في مواقف الجماهير من قضية فلسطين. فمن شواهدها اتساع القاعدة الجماهيرية لهذه الفعاليات وانخراط مكوِّنات مجتمعية فيها، وتعبير شخصيات عامّة من الحياة الثقافية والأدبية والفنية في بلدان عدّة عن مواقف مبدئية ذات صلة.

رصدت استطلاعات رأي تحوّلات معيّنة في مواقف الجمهور في بلدان أوروبية من فلسطين واحتلالها في سياق حرب غزة، علاوة على حصيلة الخبرات التي تراكمت قبل موسم الإبادة المشهودة. تجلّى للعيان كيف حقّق التفاعل الجماهيري الداعم لفلسطين زخمًا كبيرًا قياسًا بالفعاليات المكرّسة لتأييد الجانب الإسرائيلي، وحربه الوحشية على غزة، رغم ما تحظى به دولة الاحتلال من رعاية رسمية وتكريم معنوي أحيانًا في بعض هذه الدول.

ثمّة فجوة ماثلة للعيان بين مواقف النخب المتنفِّذة واتجاهات الجمهور. وبينما مالت وسائل الإعلام المركزية في معظم دول أوروبا إلى مضامين منحازة بوضوح إلى سردية الاحتلال حتى بعد التعديل النسبي الذي طرأ عليها، أسوة بالمواقف السياسية الرسمية تقريبًا؛ جاءت المضامين الشبكية التي يتداولها الجمهور منذ بدايات حملة الإبادة في اتجاه مفارق لهذا الانحياز غالبًا.

تتضافر التأثيرات المركّبة بمفعول الزخم الجماهيري المتعاظم لصالح فلسطين وتحوُّل اتجاهات التفهُّم والتأييد في بعض البيئات بعيدًا عن الاحتلال، الذي يخسر «معركة الوعي» التي تدخل في موازين القوى المعنوية، وإن بقيت وجهة السياسات الخارجية على حالها تقريبًا.

رفعت الفعاليات الجماهيرية العارمة المؤيِّدة لفلسطين مطالب واضحة في أنحاء أوروبا، من قبيل دعم حرية الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال، و«وقف إطلاق النار فورًا»، وفرض عقوبات على الجانب الإسرائيلي، ومقاطعته، ونزع الاستثمارات من مؤسّساته وشركاته ومرافقه، وإنهاء إمدادات الأسلحة والمساعدات الموجّهة لصالحه، علاوة على مطالب تفصيلية متعدِّدة.

لا ينبغي أن تفاجئنا حقيقة أنّ الاستجابات السياسية الأوروبية لهذا الضغط الجماهيري العارم بقيت بعيدة المنال. ذلك أنّ التأثير الجماهيري يستعصي، غالبًا، على وجهة السياسات الخارجية الراسخة، كما تتجلّى في حالة دول منحازة تقليديًا إلى الاحتلال الإسرائيلي، بالمقارنة مع سياسات تتعلّق بالشؤون المحلية أو الوطنية المباشرة.

حقيقة الأمر أنّ السياسات الخارجية تبقى بمنأى عن الاستجابة لتطلّعات أوساط جماهيرية ناشطة وإن تعاظمت تحرّكاتها. ويعود ذلك لأسباب بعضها بنيوي في الديمقراطيات الأوروبية. يُدرك صانعو القرار، بطبيعة الحال، أنّ الكمّ الجماهيري الذي يضغط في الشارع والشبكات وبعض الأوساط للدفع باتجاه تصحيح معيّن لوجهة السياسة الخارجية؛ لا ينعكس بالزخم ذاته على المؤشِّرات الانتخابية ولا تترتّب عليه، بالتالي، تأثيرات جوهرية في صناديق الاقتراع على الأرجح، إلا في حالات محدودة.

قد عزّزت نتائج الانتخابات التي أُجريت في البلدان الأوروبية خلال حرب غزة (2023-2024) هذا الاستنتاج إلى حدّ كبير. يؤدي غياب الفرص الواقعية المُتاحة لتمثيل مطالب الجماهير المُعترضة إلى دفع السلوك التصويتي إلى خيارات؛ منها الاقتراع لصالح الخيار الأدنى من حيث «السوء»، أو الإحجام عن منح الأصوات للأحزاب المتنافسة ذات الفرص الواقعية في التصدّر بالامتناع عن التصويت، أو توجيه الأصوات إلى أحزاب هامشية في الوزن الانتخابي، وبعضها قد يكون حديث التشكّل، وقد لا يملك فرصة واقعية حتى لدخول البرلمان.

يبقى هذا التأثير التصويتي محدود الأثر أو قابلًا للاحتمال بالنسبة لبعض الأحزاب، ما لم تتضافر حالة شعبية جارفة ودؤوبة –تبقى مستبعدة– تُغلِّب أولوية سياسية خارجية على ملفّات أخرى تشغل جماهير الناخبين.

من شأن هذا الواقع أن يشير إلى المفعول النسبي المحدود للفعاليات الجماهيرية والاعتراضات الشعبية والضغوط القطاعية المتعلقة بفلسطين واحتلالها وحرب الإبادة الوحشية، على التوازنات الانتخابية في معظم البيئات الأوروبية. وقد يتزايد هذا المفعول في بيئات معيّنة بحضور عوامل ومتلازمات أخرى، أو يضمر عند تعاظم أولويات انتخابية أخرى مثل العناوين التي يستثمر فيها اليمين وأقصى اليمين، ويحقِّق مكتسبات متزايدة عبر أوروبا، ما يعزِّز مواقفه المنحازة تقليديًا للاحتلال الإسرائيلي.

على أنّ توفّر ثقافة سياسية ومجتمعية متعاطفة تقليديًا مع الشعب الفلسطيني، ولو بشكل جزئي، يُتيح فرصًا أوفر لفعاليات الجماهير المؤيدة لفلسطين في التأثير الانتخابي والسياسي، كما تعبِّر عن ذلك الحالتان الأيرلندية والإسبانية مثلًا.

المفعول الضاغط والتأثيرات الموضعية

لا تنفي المعادلات السياسية والانتخابية القائمة فرص التأثير التي تحوزها الفعاليات الجماهيرية والاتجاهات المرصودة شعبيًا فيما يتعلّق بفلسطين. فتحرّكات الميادين ومبادرات المتفاعلين ذات مفعول ضاغط على صانعي القرار، وإن لم يتجاوبوا مع مطالبها وتطلّعاتها. وهي تزيد من الكلفة الأخلاقية والمعنوية للسياسات والمواقف المنحازة للاحتلال الإسرائيلي.

ثمّ إنّ المطالب القطاعية والضغوط القاعدية مؤهّلة لانتزاع مكتسبات معيّنة عبر التحرّكات الجماهيرية والتكتّل المدني والمبادرات الضاغطة وجهود التوعية. وقد تجلّى ذلك، مثلًا، في دفع مؤسسات وهيئات إلى نزع استثماراتها من مؤسّسات الاحتلال ومرافقه. إنّ الضغط الموضعي على مؤسّسات ومصانع ومرافق معيّنة –بما في ذلك الاعتصامات الجامعية التي تطالب بفكّ تعاقدات معيّنة مع مؤسسات الاحتلال ومصالحه– مؤهّل لإحراز تأثير فعّال في أمد زمني قصير نسبيًا بالنظر إلى مفعول تركيز الضغط الموضعي وحشد جمهور مؤسسة معيّنة نحو مطالب تفصيلية مفهومة، وتُعدّ قابلة للتحقيق في نطاق محدّد.

كما أنّ للتحرّكات الجماهيرية والاعتراضات المسموعة أثرها المحتمل في تكييف بعض الخطابات والمواقف السياسية بشكل نسبي بما يراعي التوجّهات الجماهيرية المرصودة، وإن لم يمس هذا جوهر السياسات ذات الصِّلة.

من واقع الحال أنّ فلسطين تكسب في ديمقراطية الشارع ما لا يتحقّق لها في ديمقراطية الأروقة المُوصَدة على نخب مُرتهنة للعناوين السياسية وأولويات المصالح والتوازنات القائمة.الجزيرة نت

copy short url   نسخ
30/08/2024
0