+ A
A -

تأخذك ابتسامات أبو توبة ولغته العفوية وهو يحكي حكايته مع الإسلام، وقصة محنته من عسكري متقدم في قوات النخبة الخاصة للجيش الأميركي، حتى وضعه في زنزانة منفردة، عليه سلاسل حديد مغلّظة، اختلط صدؤها بجِلده المنهك في سجون أميركا، رغم أنه ابن نيويورك العتيق، وإن بقي رسم الفُلّاني الإفريقي، جلياً في جيناته التي أدركها الشيخ، وكأن الإمام العارف يحضر في قصة الجذور، لأليكس هالي، وأن الكيان الأعظم الذي رُفع له مولود (العبد الأميركي المضطهد)، لا يزال دينهُ قائما في قصة الأفارقة الأميركيين، فوقّع ابن عدّود على قصة تاريخ الإنسان، عبر رمل الصحراء.

ومنذ أن قرر مُخلص أن ينتقل من فرد في جيش استعماري، إلى أمة في طريق التوحيد الإسلامي، تجذبك أحداث وحوارات وضحكات الأميركي الإفريقي الأسمر اللذيذة والماتعة، فلا تكاد تغادر منصة بودكاست أثير، وأنت تنصب العين والسمع لحكاياتها الإفريقية، وحسبك أن عرّابها أحمد فال، روائي وقلم فكري عالمي إنساني لا إنسانوي، اصطبغ بِسِفرِ المنارة والرباط، ودَمج معها جدل الفلسفة الدقيق، وروح الأديب البدوي العصري.

ولأن موريتانيا وشنقيط، هي جوهر في حكاية ابي توبة، قفز سؤالها الكبير، في قلب الحكاية لا هامشها، قصة غريبة وسنوات محنة طوال، بدأت بنكتة وتحولت إلى معاناة، تُذكّرك بالفلم الهوليودي الشيق (الموريتاني)، مع أن القصة هذه المرة، لم تكن في غوانتانامو، ولكن في داخل الولايات المتحدة الأميركية.

يبرر لك أبو توبة قسوة النظام الأميركي المتجسد في الإف بي آي، في رحلة عذاباته، بأنها حبكة انتقام دُبرت له، ومن حق الآخر المستمع أن يتساءل عن دقة ما قدمه الشاب الإفريقي الأميركي لسبب المؤامرة، هل دعوته وتأثيره على قيادات المخدرات البيض، وغيرهم من شخصيات ودخول بعضهم الإسلام، سببُ حقيقي، أم أنه غلبة ظن بسبب المعاناة.

لكن ما يصطف مع أبو توبة هو أن العهود الأميركية، منذ سبتمبر 2001، بل وحتى قبلها، امتلأت بقضايا ثأر من العالم الجنوبي، ذهب فيها أبرياء كثر، كانت منظومة العدالة الأميركية أبعد ما تكون عنهم.

ورغم قصته الحيوية الجذابة والمؤلمة، مع السجّان الأميركي وتُهم الإعلام الملفقة له، لكن ظل أبو توبة يحشد روحه عند قصته الموريتانية، ففي ذلك المخيم البعيد في عمق الصحراء، الذي يسميه أبو توبة معسكر، ظل حكيم البيت البدوي، الذي تضرب أروقته رياح الصحراء الموريتانية حاضراً، فالهجرة إلى الشيخ محمد بن سالم بن عدّود، مقصد طلبة العلم من الشرق ومن المغرب الكبير ومن الغرب، وهذا ليس غريباً وغريبٌ في ذات الوقت.

فقصدُ علماء موريتانيا الكبار وقد تكرر ذالك مع الشيخ الكبير، مرابط الحاج رحمه الله، يُفهم من خلال قوتهم العلمية، وحافظتهم، وجهاد المَحَاظر والمصابرة فيه، أما الغريب فهو الشدة والبأس الذي يعانيه طلبة العلم، بسبب الطقس وظروف الصحراء، ومع ذالك يجثو أبناء الغرب من المسلمين الجدد بين يدي شيوخهم هناك، وكان الداعية الإسلامي الأميركي المعروف الشيخ حمزة يوسف أحدهم، في السنتين التي قضاهما بين يدي مرابط الحاج، وله قصة عجيبة لا يسع المقال لسردها.

ولعل الداعية مُخلص أبو توبة يقارب علة هذا السر في رحلته، ولقد ولي شيخه محمد بن سالم بن عدّود الهاشمي رحمه الله، عدة مناصب حكومية ووزارية، وبالتالي دخل هذا الشيخ عالم الدولة ورسمياتها، وأيضاً فرص التكسب حتى المشروع منها، لكن بن عدّود عاد إلى محظرة أم القرى في صحراء موريتانيا، حتى يستأنف رحلة أجداده في التعليم الشرعي، وأدواته وبالخصوص اللغة العربية.

وحالياً ينتشر مذهب العلماء البدو في أميركا الشمالية، وهو مذهب الإمام مالك، وتعجب من ذالك، بسبب أن هذه المدرسة، ليس لها اليوم ذالك النفوذ أو المصالح المادية، وخاصة إذا رابط طالب العلم عند قاعدة الإخلاص، وسلم من توظيفات السياسة، أما إذا غرق فيها فالفتنة فيها سواء، أكان مالكياً أم سلفياً حنبلياً، فالعبرة بالتقوى.

يقول مُخلص أنه منذ أن أقبل على مخيم بن عدّود، عرف خيمة القائد، إذ أن طريقة نصب المعسكرات في الجيش الأميركي، تُعرّفك على موقع القيادة فيه، فأدرك أن بن عدود في ثقافة الخيم البدوية، كان أسبق من ثقافة الجيش الذي تدرب فيه، لكن هذا القائد لم يكن ناظر مدرسة، ولا عميد كلية ولا رئيس جامعة، ولكنه كان شيخ مخيم يدير أحوال شعبه فيه بدقة عالية.

منبسط يمازح تلاميذه، لكنه يتعبهم في درس الأخلاق، يتعقبهم فيه بالتفصيل، حتى إذا قالوا يا شيخنا، دعنا نكمل المنهج..

قال كلا..

لا خير في علم دون أخلاق.. الأخلاق أولاً ثم العلم.

للحكاية بقية

copy short url   نسخ
01/09/2024
0