يعيش شمال الضفة الغربية حالة أمنية معقدة عن باقي مناطق الضفة الغربية من حيث شكْل المقاومة وأدواتها، حيث شكّل في السنوات الأخيرة حالة مواجهة مباشرة مستمرة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكان قبل السابع من أكتوبر/‏‏تشرين الأول وبعده مركز الاشتباك والصراع، لا سيما جنين وطولكرم وطوباس، وبدرجة أقل نابلس.

أعلن جيش الاحتلال في 28 أغسطس/‏‏آب 2024 عن عملية عسكرية واسعة النطاق شمال الضفة الغربية، وهي الكبرى منذ عام 2002، ولها أبعاد متعددة. ومع ذلك، يلاحظ أن هناك مبالغات في تسويق الحاجة الأمنية لهذه العملية، حيث يبدو أن الهدف الأساسي هو تعظيم إنجازات الجيش الإسرائيلي الذي يعاني من أزمة ثقة مزمنة مع المجتمع الإسرائيلي بعد أحداث السابع من أكتوبر/‏‏تشرين الأول، وتعثره في حسم الحرب في غزة والشمال.

لا يمكن إنكار البعد الأمني للعملية العسكرية شمال الضفة الغربية، لكن حجم الحشد والدعاية الإسرائيلية المصاحبة لها يهدف بشكل رئيسي إلى إرضاء رغبة المجتمع الإسرائيلي في الانتقام من الفلسطينيين، وتسجيل إنجازات وهمية للجيش الإسرائيلي. كان يمكن تصفية بضعة مطلوبين -والذين تم اغتيالهم خلال هذه العملية- بطرق أخرى، كما تم في الفترات الماضية، دون الحاجة إلى هذه الضجة الكبيرة وبأساليب أخرى.

تعكس طبيعة العملية العسكرية الأخيرة للاحتلال شمال الضفة أيضًا الصراع بين الأقطاب داخل حكومة نتانياهو، والصراع بين الجيش وجهاز مخابرات الاحتلال «الشاباك» من جهة وبعض أقطاب أقصى اليمين. يعبر عن ذلك ناحوم بارنيع في يديعوت أحرونوت إذ يقول: «منذ بداية الحرب يمارس بعض الوزراء ضغوطًا كبيرة على الشاباك والجيش لنقل الأساليب التي تستخدم في قطاع غزة إلى الضفة الغربية؛ للقيام بأعمال التدمير، الطرد والاحتلال».

أي محاولة مهما كانت من جانب السلطة الفلسطينية للعمل ضد المنظمات الفلسطينية تواجه بالرفض من قبل الوزراء وأعضاء الكنيست من الائتلاف، وأدواتهم – مراسلي القنوات التلفزيونية الإسرائيلية – يقف خلف هذا التهويل والحشد العسكري شمال الضفة الغربية أيضًا سبب آخر، وهو حالة الفوبيا التي تسكن قادة جيش الاحتلال ومخابراته بفعل تحميلهم بسوء تقديراتهم الأمنية والعسكرية الفشلَ في السابع من أكتوبر/‏‏تشرين الأول، فأصبح القادة الأمنيون والعسكريون الإسرائيليون أكثر جنوحًا للعمليات الوقائية الاستئصالية، وتضخيم الإنذارات الأمنية حتى لا يتّهموا بالتقصير في حال حدثت عمليات فدائية كبيرة.

بالعودة إلى حالة المقاومة في الضفة الغربية وتحديدًا في شمالها فهي ليست نمطًا واحدًا، فالأول هو النمط شبه العلني لشبان مسلحين حصلوا على أسلحتهم من تنظيمات أو من مالهم الخاص وبرزوا في خوض الاشتباكات المسلحة المباشرة، وهذا النمط مكلف للشبان المقاومين من حيث الخسائر، وقليل الكلفة على جيش الاحتلال، والثاني هو المجموعات الصغيرة السرية التي تنفذ عمليات نوعية، وإن كان مستوى العمليات ما زال محدودًا، وأصبحت تكتسب خبرة تراكمية في صناعة العبوات الناسفة، أو تنفيذ كمائن موت قرب المعسكرات والشوارع الاستيطانية، والثالث هو الذئاب المنفردة التي ما زالت مستمرة وإن كان بوتيرة أقل من السابق.

تعاني الضفة الغربية من حالة فوران اجتماعي جامح من جيل الشباب من سن 16 عامًا فأعلى للالتحاق بالمقاومة، بينما تفتقر قوى المقاومة الفلسطينية إلى آليات وأدوات ناجعة لتأطيرهم وتدريبهم؛ بسبب مستوى الحصار والملاحقة الأمنية وأدوات المراقبة التكنولوجية المهولة، ولا يمكن إغفال التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ورفض السلطة لتنامي هذه الظواهر.

تتركز الحرب الدائرة حاليًا بين قوى المقاومة في الضفة الغربية وبين جيش الاحتلال في مسألة التراكم الذي يعتبر الهاجس الأكبر الذي تخشاه قوى الاحتلال الأمنية وتتعامل معه بمنتهى الغلظة.

يعتبر العمر الافتراضي للمقاوم في الضفة الغربية قصيرًا في السنوات الأخيرة؛ بسبب ضعف حاضنة المقاومة، وكذلك التنسيق الأمني الفاعل بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، إضافة إلى ضعف الكفاءة الأمنية للمقاومين، حيث يظهر أن المقاوم بالكاد يستطيع أن يقوم بعمل واحد فقط، ثم يتم تصفيته فيما لا يتجاوز متوسط فترة ملاحقة المطاردين في الغالب، الشهرين إلى الثلاثة، مقارنة بسنتين إلى خمس سنوات في انتفاضة الأقصى وما سبقها.

لكن شيءًا ما بدأ يتغير في هذه المعادلة في الشهور الثلاثة الأخيرة يشي ببداية تحول نوعي وإن كان ما زال متواضعًا في أداء المقاومة في الضفة الغربية لتصبح مؤثرة ضد الاحتلال:

الأول هو التطور في صناعة العبوات الناسفة والمتفجرات والتي بدأت توقع قتلى وإصابات بليغة بالآليات العسكرية للاحتلال، لا سيما في جنين وطولكرم وطوباس شمال الضفة الغربية.

والثاني هو عملية تل أبيب الأخيرة والتي نفذها استشهادي من مدينة نابلس وإن لم يكتب لها النجاح إلا أنها فتحت الباب أمام تغيرات لا يمكن إغفالها.

والثالث ليس جديدًا ولكنه تجديد لأساليب الكمائن القديمة والمتمثل في عملية الأغوار التي قُتل فيها جندي قبل أسابيع.

يعتبر ذلك تطورًا بالغ الخطورة في قواعد الاشتباك مع الاحتلال في الضفة الغربية التي نجحت في الوصول لهذه المرحلة رغم الثمن الباهظ الذي دفعته؛ نتيجة العمليات العسكرية في الضفة بعد السابع من أكتوبر/‏‏تشرين الأول والتي أفضت إلى استشهاد 670 فلسطينيًا وإصابة أكثر من 5400، واعتقال ما يزيد على 10500 مواطن، إضافة إلى تقسيم جيش الاحتلال للضفة بشكل معقّد يصعّب تنفيذ عمليات ناجحة.{ الجزيرة نت