+ A
A -
جريدة الوطن

تسبّب مقتل ستة من المحتجزين لدى حركة المقاومة الإسلامية «حماس» (خمسة إسرائيليين وأميركي واحد)، أثناء محاولة قوات الاحتلال الإسرائيلي الوصول إلى موقع احتجازهم داخل نفق في منطقة رفح جنوب قطاع غزة، في اندلاع موجة احتجاجات كبيرة داخل إسرائيل تطالب رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يسمح باستعادة المحتجزين أحياء. .وتعدّ حركة الاحتجاج هذه الأكبر التي تشهدها إسرائيل منذ اندلاع الحرب في غزة في 7 تشرين الأول/‏ أكتوبر 2023. وقد زادها أهمية انضمام كبرى نقابات العمال في إسرائيل (اتحاد نقابات العمال «الهستدروت»)، التي دعت إلى إضراب عام في 2 أيلول/‏ سبتمبر 2024، ما عطّل أجزاء من الاقتصاد الإسرائيلي. وكان آخر احتجاج واسع شهدته إسرائيل، في ربيع 2023، ضد خطط نتانياهو لإعادة هيكلة القضاء، وقد أجبره حينها على تجميد مشروع التعديلات القضائية والعودة عن قراره إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت الذي عارض محاولاته الحد من استقلالية القضاء.

أهمية الاحتجاجات ونطاقها

منذ تشرين الثاني/‏ نوفمبر 2023، حين جرت آخر عملية تبادل أسرى ومحتجزين بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بعد وقف مؤقت لإطلاق النار استمر أسبوعًا، لم تنجح كل الجهود الدبلوماسية، أو الضغوط الخارجية والداخلية، في تغيير موقف نتانياهو بشأن التوصل إلى اتفاقٍ لتبادل من تبقى من محتجزين في قطاع غزة بأسرى فلسطينيين، بحيث يشمل وقفًا لإطلاق النار. وظل نتانياهو متمسكًا بموقفه الداعي إلى القضاء على حركة حماس واستئناف الحرب بعد أيّ اتفاق لإطلاق سراح المحتجزين، واستمر في وضع شروط جديدة بعد كل تقارب في المواقف، وآخرها شرط بقاء الجيش الإسرائيلي في محور صلاح الدين (فيلادلفي) الفاصل بين قطاع غزة ومصر. وظلت الحركة الاحتجاجية، التي شكّلتها عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة للضغط من أجل إبرام اتفاق، محدودة في العموم، ولم تتمكن طوال شهور من حشد دعم شعبي كبير للتأثير في موقف نتانياهو الذي استند إلى مشاعر انتقام الشارع الإسرائيلي، وإلى تحالف يميني متطرف في الكنيست يدعو إلى استمرار الحرب حتى تحقق أهدافها، على الرغم من عدم وضوحها، كما اعتمد نتانياهو على علاقاته في واشنطن التي حدّت من فاعلية ضغوط إدارة الرئيس جو بايدن عليه، وظهرت أهميتها بوضوح خلال الخطاب الذي ألقاه في الكونغرس الأميركي في 24 تموز/‏ يوليو 2024، وصفّق له الحضور خلاله 79 مرة في 52 دقيقة.

لكنّ هذا الوضع بدأ يتغير في الأسابيع الأخيرة، حيث أخذ الإنهاك والتعب من استمرار الحرب مدة أكثر من عشرة شهور، يظهران جليًا على المجتمع الإسرائيلي، وبدأ يتضح لجزء كبير من الجمهور الإسرائيلي أن استمرار الحرب فقد معناه وبات مرتبطًا بحسابات سياسية خاصة بنتنياهو الذي يسعى لإطالة عمر حكومته، حتى لو أدى ذلك إلى مقتل كل المحتجزين في غزة. لذلك، عندما أعلن الجيش الإسرائيلي في 1 أيلول/‏ سبتمبر 2024 العثور على جثث المحتجزين الستة، نزل أول مرة، منذ بداية الحرب، عشرات الآلاف من الإسرائيليين للاحتجاج في تل أبيب على استمرارها، وانضم آلاف آخرون إلى عائلات المحتجزين في القدس في اعتصام خارج مكتب نتانياهو أثناء اجتماع لمجلس الوزراء، احتجاجًا على قرار استمرار سيطرة الجيش على محور صلاح الدين الذي بات في هذه المرحلة يمثل العائق الرئيس أمام التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.

وما أعطى الاحتجاج أهمية أكبر هذه المرة انضمام الهستدروت إليه ودعوتها إلى إضراب عام يوم 2 أيلول/‏ سبتمبر، للضغط على حكومة نتانياهو لإعادة المحتجزين في غزة. ومع أن الإضراب شهد مشاركة كبيرة من مختلف القطاعات، بما في ذلك النقل والتعليم والبلديات في أكبر احتجاج مناهض للحكومة منذ 7 تشرين الأول/‏ أكتوبر 2023، فإن نجاحه الجزئي أوضح توسّع الشرخ داخل المجتمع الإسرائيلي بين من يريد استمرار الحرب في غزة حتى القضاء على المقاومة الفلسطينية، وأولئك الذين يرون أن إعادة الرهائن أحياء يجب أن تكون أولوية في هذه المرحلة. وفي حين حظي الإضراب بدعم واسع في المدن الكبرى، مثل تل أبيب وحيفا، حيث أغلقت شركات عدة وتوقفت الخدمات، شهدت المناطق الأكثر يمينية ومحافظة، مثل أحياء القدس الغربية، والبؤر الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، عزوفًا عن المشاركة. وعلى الرغم من أن الحكومة تمكنت من منع استمرار الإضراب واتساع نطاقه بقرار قضائي، مشيرة إلى احتمال زعزعة استقرار الاقتصاد والوضع الأمني في البلاد، فإن حجم الاحتجاجات بيّن بوضوح أن الإجماع الذي ظهر في إسرائيل حول أهداف الحرب بعد 7 تشرين الأول/‏ أكتوبر بدأ يتصدع.

موقف المؤسسة العسكرية من البقاء في محور صلاح الدين والحكم العسكري في غزة

بالتوازي مع تصاعد الاستياء على مستوى الشارع، أخذت المؤسسة العسكرية تُبدي مزيدًا من المعارضة لتوجهات نتانياهو بخصوص مسار الحرب في غزة، إذ صوّت غالانت، الذي يمثّل موقف المؤسسة العسكرية والأمنية، ضد قرار استمرار الجيش في السيطرة على محور صلاح الدين، خلال اجتماع المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية «الكابينت»، الذي عُقد في 30 آب/‏ أغسطس، واتّهم نتانياهو بفرض إرادته على الجيش، وطالب الكابينت بتغيير قراره الداعي إلى إبقاء الجيش في محور صلاح الدين، والذهاب إلى اتفاق يضمن إطلاق سراح المحتجزين. وعمّقت مسألة محور صلاح الدين الخلاف بين الجيش ونتنياهو، حيث أعرب الجيش عن مخاوفه من أن نتانياهو يمهّد الطريق لحكم عسكري إسرائيلي مباشر في غزة، بعد أن قرر استحداث منصب جديد يحمل اسم «رئيس الجهود الإنسانية المدنية في غزة»، وتعيين العميد إلعاد غورين لشغله. ويخشى الجيش من أن نتانياهو يورّطه في إدارة شؤون المدنيين في قطاع غزة، وهو أمر قد تزيد تكلفته السنوية على عشرة مليارات دولار من ميزانية الجيش وتتطلب بقاء عدة فرق عسكرية على نحو شبه دائم داخل القطاع. وهذا يعني أن مخاوف الجيش التي عبّر عنها غالانت في مؤتمر صحفي عقده في 15 أيار/‏ مايو، ودعا فيها نتانياهو إلى الإعلان أن إسرائيل لن تقيم حكمًا عسكريًا في قطاع غزة، قد تحققت فعليًا.

وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية نشرت وثيقة مسرّبة في أيار/‏ مايو وضعتها المؤسسة العسكرية بشأن بدائل حكم حماس في قطاع غزة، أكدت فيها أن إقامة حكم عسكري إسرائيلي في قطاع غزة يعدّ الخيار الأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل، إذ يستنزف قدرات الجيش ويتطلب زيادة فترة خدمة قوات الاحتياط، وتخصيص قوة عسكرية كبيرة، ما سيؤثّر في فاعلية الجبهات الأخرى التي تواجهها إسرائيل. ويأتي إصرار نتانياهو على البقاء في محور صلاح الدين ليضيف نقطة خلاف أخرى مع الجيش الذي يرى أن مسألة المحور لا يجب أن تشكّل عائقًا أمام التوصل إلى اتفاق يعيد المحتجزين أحياء، وخاصة أن الجيش يتحمّل «عبء» مقتلهم في قطاع غزة نتيجة استمرار الحرب ومحاولات الوصول إليهم لتحريرهم. وقد عبّر عن موقف المؤسسة العسكرية العضوان السابقان في مجلس الحرب، ورئيسا الأركان السابقان، بيني غانتس وغادي آيزنكوت، اللذان دعوا خلال مؤتمر صحفي مشترك بعد مقتل المحتجزين الستة إلى إعادة الرهائن، حتى لو كان ذلك بثمن باهظ، وأن «محور فيلادلفي (صلاح الدين) لا يمثل تهديدًا وجوديًا لدولة إسرائيل»، كما يزعم نتانياهو.

لماذا يصرّ نتانياهو على البقاء في محور صلاح الدين؟

بالتوازي مع ضغوط الشارع، والضغوط التي تمارسها المؤسسة العسكرية والأمنية، زادت الإدارة الأميركية ضغوطها على حكومة نتانياهو، للتخلي عن موقفه بشأن محور صلاح الدين، إذ اتهم الرئيس بايدن نتانياهو، بعد تلقّيه خبر مقتل محتجز أميركي في غزة، بأنه «لا يفعل ما يكفي» للتوصل إلى اتفاق يسمح بإطلاق سراح المحتجزين. وكشفت وسائل إعلام أميركية أن إدارة بايدن تعكف على وضع مقترح نهائي لجسر الخلاف بين إسرائيل وحماس بخصوص محور صلاح الدين، سيُقدّم بصيغة «خذه أو دعه» في إشارة إلى احتمال تخلّى الولايات المتحدة الأميركية عن جهود الوساطة لإبرام اتفاق بشأن المحتجزين في غزة في حال رفض نتانياهو أو حماس المقترح. والحقيقة أن إدارة بايدن لم تمارس أيّ ضغط على إسرائيل، وأن مجرد التلويح بمقترح جديد بعد أن رفضت إسرائيل المقترح الأول هو خضوع للضغط الإسرائيلي، وليس العكس، ما يثير الشكوك في أن إدارة بايدن لم تتوقف عن الإيهام بوجود أمل ومفاوضات وتقدّم فيها حتى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في تشرين الثاني/‏ نوفمبر 2024، إذ لا تتوافر لديها الإرادة للضغط فعلًا على الحكومة الإسرائيلية.

لكن كل هذه الضغوط لم تؤدّ حتى الآن إلى تغيير كبير في موقف نتانياهو الذي خرج في مؤتمر صحفي، بعد ساعات من انطلاق أوسع احتجاجات ضد سياساته في إدارة المفاوضات بشأن المحتجزين في غزة، أصرّ فيه على أن موقفه لم يتغير، واصفًا محور فيلادلفيا (صلاح الدين) بأنبوب الأكسجين لحماس، ويجب قطعه، ومعتبرًا أن «خروج الجيش الإسرائيلي منه يجعل غزة مصدرَ تهديدٍ كبيرًا لإسرائيل، وأنه سيكون بمنزلة فتح الطريق لتهريب الأسلحة إلى حماس».

وعلى الرغم من وجود قضايا خلافية عديدة في مفاوضات تبادل الأسرى، فإن نتانياهو جعل البقاء الإسرائيلي على طول محور صلاح الدين نقطة الخلاف الجوهرية في الأسابيع الأخيرة، حيث يسود اعتقاد أنه يستغل المسألة لشراء الوقت على أمل تحقيق إنجاز ميداني يحسّن موقفه السياسي، في حين يسعى للحفاظ على تحالفه الحكومي اليمين المتطرف، وربما يحاول أيضًا التأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة من خلال إحباط جهود بايدن. وفي المقابل، تعتبر حركة حماس انسحاب القوات الإسرائيلية من محور صلاح الدين جزءًا لا يتجزأ من أيّ اتفاق لوقف إطلاق النار، وتعارض مصر الوجود العسكري الإسرائيلي فيه أيضًا، باعتبار أنه ينتهك اتفاقيات كامب ديفيد، واتفاقية معبر رفح لعام 2005، وأن ذلك يمثل تهديدًا لاستقرار المنطقة، وقد يجرّ مصر إلى الصراع.

خاتمة

على مدى أكثر من عشرة شهور، تمكّن نتانياهو من الالتفاف على كل الضغوط الخارجية (السياسية والقانونية والإعلامية) التي تعرّض لها للقبول باتفاقٍ يوقف الحرب ويعيد الأسرى، كما تمكّن من احتواء الضغوط الداخلية وإضعافها، من خصومه السياسيين أو عائلات المحتجزين، متسلحًا بإجماع واسع على الحرب وأهدافها داخل المجتمع الإسرائيلي وأغلبية في الكنيست تؤمّنها له الأحزاب اليمينية المتطرفة. لكنّ الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها إسرائيل على خلفية مقتل ستة محتجزين وما رافقها من إضراب عام دعت إليه الهستدروت، تعد مؤشرًا على بدء تصدّع الإجماع الإسرائيلي على الحرب، وربما تمثل التحدي الداخلي الأكبر الذي يواجهه نتانياهو منذ تشرين الأول/‏ أكتوبر 2023، وتكرّس الانقسام الشائع في المجتمع الإسرائيلي، على الرغم من أنها تتركز في أوساط الفئات الليبرالية والعلمانية. وسوف يحتاج الأمر بالتأكيد إلى انخراط شرائح أوسع من المجتمع الإسرائيلي في حركة وقف الحرب، إضافة إلى تزايد الضغوط الخارجية، واستمرار صمود المقاومة الفلسطينية، قبل أن نرى تحولًا واضحًا في النهج الذي يتّبعه نتانياهو، والذي ما زال يركّز فيه على استرضاء ائتلافه للاستمرار في الحكم أطول فترة ممكنة.

copy short url   نسخ
08/09/2024
0