يقول الداعية الأميركي مُخلص، أنه حين كان يراجع نظم الأجرومية، وهو كتاب تأسيسي مهم في النحو، مال بطبيعته إلى طريقة الراب الأميركية، فكان يُنشدها والشيخ بن عدّود يستمع، حتى وعظَهُ بعض الطلاب العرب وقسوا عليه، ألا تفعل ذلك، لعله بدعة، فضاق صدرُه، وأطّر لسانه على طريقتهم، وحين أنشد للشيخ حفظه من غدٍ، ابتسم الشيخ وقال لم يحفظ أبو توبة اليوم!

قال كيف يا شيخنا لقد حفظت! فقال أين لحنك اليوم فيه؟

ثم قال يا أبا توبة، إن النظم له طَرقٌ موسيقي، كما تنظمه العروض، (مستفعلٌ مستفعلن مستفعلا) فكانت رسالة رقيقة من الشيخ ألا حرج عليك، أن تُنظّم الحفظ بطَرقٍ موسيقي، وعلم الشيخ أن ذلك مدعاة لهمته وضبطه، فكانت روحه وأفقه أوسع من بعض تلامذته العرب، فسُر أبو توبة بذلك.

لكن طبع الشيخ الجميل المتسامح، تحول إلى غضب شديد، خاف منه أبو توبة، حين كان الإمام يترصد أحوال رعيته، فرأى بنات أبي توبة، يستسقين في الظهيرة، فبعث لهن مَن يحضرهن، وآواهم إلى الظل، وسقاهم من زريك الشناقطة، وعقد جلسة تأديب لأبي توبة.

كيف تفعل ذلك، كيف ترسل بنيّاتك في الظهيرة؟

فأوقع عليه عقوبة من جنس العمل، وهو أن يستقي لأهل المخيم ثلاثة أيام من البئِر، وأحسب أن روحَ أبي توبة كانت مشرقة عظيمة، حين خضع لحكم شيخه، فليس كل أحدٍ يطيق ذلك، غير أن هناك سرا روحيا للشيخ مع تلاميذه تُرشدهم لهديه.

وحينما أخطأ أبو توبة خطأً آخر، غير متعمد مع حارس المعهد السعودي في نواكشوط، فما أن عاد إلى أم القرى، حتى وجد الشيخ غاضبا أيّما غضب، يا مخلص: أيتحدث المجتمع أن تلاميذ بن عدّود يضربون الناس؟ لا خير في محظرة لا أخلاق لها!

فما كان من مُخلص إلا أن فدى خطيئته باعتذار وبتعويض مالي للحارس، وطَيّب خاطر شيخه، وقد كان ما تعرض له الحارس ارتداد يده عليه بعد أن صدها أبو توبة عنه، لكن محاكمة العارفين لذواتهم فريضة في طريق السالكين، ولولا أن روح أهل الله سَرَت بين الشيخ وتلاميذه، لما وصلت السكينة لقلوبهم فسكن الناس لأرواحهم.

هذه النماذج العلمية ذات سر روحي أخلاقي، يجعل فيها بركةً خاصة، على سعيهم في نشر علوم الشريعة بين الناس، في حين نجد على البعض من ذوي الوعظ والتعليم الإسلامي، ظُلمة أو صدود نفسٍ، وإن ضجت بهم المنابر والإعلام، إنه سر الإخلاص.

وأزمة الأُمة اليوم وبالذات في تعطيل فقه العمران، الذي من الممكن أن تتم استعادته، والخروج له عبر فضاء مقاصد الشريعة، التي تبعث الروح في العالم المعاصر وفلسفة النهضة والمعرفة، وهو ضرورة لحاضر العالم المسلم، لكنه مجهول أو محارب من ذوي المصالح، ولو كُتب له العودة لاستئناف البلاغ الإسلامي، لكانت روح محاظره في المدن والأرياف، تجمع بين الفكر والفقه، وتُبحر في دسترة التشريع.

ولكن حتى هذا العلم يحتاج إلى معالجة قلب، ومراجعة حال، حتى لا تطغى مصالح الدنيا عليه، فتُفسِدُ النيّة المادية أثره بين المسلمين وفي المعمورة، فلا يقوم مجتمع صالح، ولا دولة راشدة.

يقول مخلص، أنهُ حينما كان يتنقل بين موريتانيا والسنغال، كان العساكر يقولون من أين تذهب يا رجل، تعالَ هُنا، فيعرض عليهم رسالة الشيخ ابن عدّود، التي يوصي بها بإحضار زوجة مخلص وبناته، الذين اقاموا في مخيم الشيخ فيما بعد، فما أن يرى الجندي توقيع ابن عدّود، حتى يردها سريعا معظماً لها، إنه توقيع الرجل الصالح، وتأشيرته أضحت بصمة عالمية، تُفتح لها القلوب قبل الأبواب، رضي الله عن الشيخ ابن عدّود ورضي الله عن كل من ثبت على الطريق، فأدرك المنزل، أو سعى مخلصاً له، وهنيئاً لمن وصل.

رحل ابن عدّود إلى بطن الصحراء بعد أن كان على ظهرها، لكنه تعامل مع الدنيا على أنها راحلة، كانت تجربته تعزف في ناي الصحراء وتؤذن:

إِنَّ لِلَّهِ عِباداً فُطَنا

تَرَكوا الدُنيا وَخافوا ألفِتَنا

نَظَروا فيها فَلَمّا عَلِموا

أَنَّها لَيسَت لِحَيٍّ وَطَنا

جَعَلوها لُجَّةً وَاِتَّخَذوا

صالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا

فمن يدرك الحقيقة اليوم، في عالم المسلمين وهم يعالجون جراحهم، وكثرة طاعنيهم وتمكن الصهاينة والغرب المعتدي فيهم، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، كيف تُفعّل مبادئ الأخلاق في الصراعات القبلية والاجتماعية، وكيف يقف أهل العلم مع الحق لا مع ظُلم السلطة، بل كيف تقوم نهضة وبعض أهل الدعوة يهدم بعضهم بعضاً، إنها قصة المصالح الشخصية والمظالم السياسية، التي سقطت فيها التقوى فسقطت فريضة العدالة الإسلامية.