يُنظر إلى دول شمال أوروبا، أو ما يعرف بـ«الدول الاسكندنافية» على أنها دول الرفاه وسيادة القانون، أكثر من أي دولة أخرى في العالم، وهذا حقيقي، إذ أن الديمقراطية في جوهرها، تعني الرفاه والعدالة وسيادة القانون، والمتأمل في الديمقراطيات الغربية سوف يجد، دون عناء، أنها تحولت إلى صراعات ومحاصصات وتسويات، هدفها الوصول إلى الحكم على حساب القضايا الملحة لمواطنيها، ولعل الاستثناء الوحيد هو الدول التي أشرنا إليها، ومنها السويد والنرويج وفنلندا، التي اختتم حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى جولة فيها الأسبوع الماضي، أسست لمرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الممتد لعقود بين دولة قطر والدول الثلاث.
في هذه الدول سمعنا عبارات الاحترام والتقدير لما حققته قطر من إنجازات خلال العشرين عاما الماضية، وسمعنا أكثر من مسؤول في هذه الدول يصف ما حققته قطر بـ«المعجزة»، وعندما تأتي عبارات الثناء من الدول الأكثر رسوخا في تحقيق الرفاه لمواطنيها، وترسيخ سيادة القانون، فهذا يعني أن ما حققته قطر، يوازي ما تحقق في هذه الدول، التي استقبلت صاحب السمو، وفي سجل قطر منجزات قلما استطاعت دولة تحقيقها خلال عقدين من الزمن.
في الثامن من يونيو «2004»، صدر الدستور الدائم لدولة قطر، تحقيقاً للأهداف السامية في استكمال أسباب الحكم الديمقراطي لدولة قطر بإقرار دستور دائم للبلاد، يرسي الدعائم الأساسية للمجتمع، ويجسد المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، ويضمن الحقوق والحريات لأبناء الوطن، ومنذ ذلك الحين قطعت قطر الكثير من الخطوات، وكان أن أدى ذلك إلى تصدرها أفضل المراكز في المؤشرات العالمية، ومنها أفضل الأنظمة التعليمية والصحية، كما احتلت المرتبة الأولى عربيا للدول ذات النصيب الأعلى من الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد لعام «2023» بنحو «81.9» ألف دولار أميركي، وفق تقرير صندوق النقد الدولي.
هذه المنجزات ما كانت لترى النور لولا أن قيض الله لوطننا الحبيب قيادة رشيدة جعلته في مصاف الدول الأكثر تقدما، لذلك عندما يتحدث قادة الدول التي شملتها جولة صاحب السمو عن منجزات قطر بهذا التقدير والاحترام فإن هناك الكثير الذي تحقق، والكثير الذي يستحق عبارات الثناء.
وسط هذه المنجزات الهائلة لم تنس قطر أن هناك من يحتاج للدعم والمساندة، وكما أدركت مبكرا أن التعليم هو وسيلتها للتقدم والازدهار، فإنها أولت هذه المسألة اهتماما استثنائيا على المستوى العالمي، وكانت في طليعة الدول التي دعمت تطوير وتوفير التعليم عبر مبادرات خلاقة وفرت التعليم لملايين الأطفال حول العالم.
في الدول الثلاث سمعنا أيضا عبارات الثناء على جهود قطر في حل النزاعات عبر دبلوماسية متزنة وموثوقة، إذ لعبت دورا كبيرا في إيجاد حلول لكثير من الأزمات الإقليمية والدولية عبر إدارة المفاوضات بحرفية واقتدار، وتمتلك قطر رصيدا كبيرا من النجاحات المهمة في الوساطات ذات الملفات المعقدة، الأمر الذي أكسبها بعدا دبلوماسيا في القضايا والتحديات الأكثر أهمية في العالم، فمن دارفور وتشاد إلى لبنان، مرورا بواشنطن وإيران، وروسيا وأوكرانيا، وصولا لغزة، كانت وساطات قطر الأمل والرجاء في حل خلافات وقضايا شائكة عديدة، على طريق دعم الأمن والسلم الدوليين، مدعومة في كل ذلك بقدرتها على التواصل مع الأطراف المختلفة والمتخاصمة في الوقت نفسه، وقدرة دبلوماسيتها ودبلوماسييها على تحقيق نتائج إيجابية تضمن تخفيف حدّة النزاعات وفضّها، وبثقة المجتمع الدولي بدورها وبقدرتها على تحقيق النتائج المرجوة.
ما حققته قطر يحتاج إلى رؤية وشجاعة، وما نشهده في كل الميادين يؤكد أن قيادتنا الرشيدة لديها الرؤية والشجاعة التي مكنتها من تحقيق الآمال العريضة، فباتت قطر واحدة من الدول الأكثر تقدما، بما حققته من منجزات على الصعيد المحلي، والأكثر تحركا على الصعيد العالمي من أجل دعم الأمن والسلم الدوليين، لذلك لم يكن غريبا نجاح جولة صاحب السمو في الدول الثلاث، والتي من المؤكد أنها ستضيف المزيد لقطر ولهذه الدول.
لقد شكلت جولة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى «يحفظه الله» لشمال أوروبا نقلة نوعية في تعزيز علاقات دولة قطر مع الدول الأوروبية، فبعد أن كانت هذه العلاقات تمتد إلى دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، اتجهت بوصلة الدبلوماسية القطرية في هذه الجولة إلى آفاق جديدة من التعاون والبحث عن فرص مشتركة مع دول شمال أوروبا التي تمتلك مقومات وامكانيات في مجالات عديدة وقدرة على تشكيل الرأي السياسي والسعي إلى تحقيق الأمن والسلم الإقليمي والدولي.
كما ساهمت هذه الجولة في تعزيز الروابط بين دولة قطر والاتحاد الأوروبي بشكل عام ومع دول الشمال الأوروبي بشكل خاص، وعكست المستوى المتقدم الذي وصلت إليه من علاقات متميزة وتنسيق المواقف الاستراتيجية في كافة المجالات والقضايا الدبلوماسية والتنموية والأمنية، وبعد عقود من العلاقات التي ربطت دولة قطر بدول الشمال جاءت جولة سمو الأمير لتتوج هذه العلاقات وتعزز العمل المشترك بينها وبين قطر وتمهد الأرضية لتحقيق المزيد من الإنجازات، بفضل الرغبة في تطويرها والقفز بها إلى آفاق أرحب، وبفضل الرؤية المستقبلية لدى قيادات هذه الدول المتطلعة إلى فتح قنوات جديدة من التعاون مع دولة قطر، بحكم ما لديها من إمكانيات دبلوماسية واقتصادية وتنموية تساهم في تفعيل العمل المشترك والمصالح العملية المشتركة في مجالات عديدة من التعاون.
وما يعكس أهمية جولة سمو الأمير الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به من تغطية أخبارها وفعالياتها في مختلف وسائل الإعلام ومتابعة مختلف الأوساط الأوروبية لنتائجها، حيث شهدت عقد العديد من اللقاءات الاستراتيجية وإبرام العديد من اتفاقيات التعاون بين دولة قطر ودول شمال أوروبا، وهذا الاهتمام الأوروبي لهذه الجولة يكشف حقيقة الرصيد والثقل السياسي الذي أصبحت دولة تحظى به، بحكم ثقلها الدبلوماسي ونشاطها في الوساطات الناجحة وحل العديد من الأزمات في مختلف مناطق العالم، وهذا الرصيد الدبلوماسي شكل لدولة قطر ثقلا تحظى به، باحترام دول العالم بحكم نزاهتها وحرصها على تحقيق الأمن والسلم الإقليمي والعالمي في العديد من مناطق العالم، وأصبحت تحظى بثقة الدول بعد أن نجحت في حل العديد من القضايا التي كانت تهدد الاستقرار والأمن الإقليمي والدولي.
كما أن لدولة قطر رصيدا مهما في إنجازها العديد من المشاريع التنموية سواء كان داخل الدولة أو في مناطق مختلفة من العالم، مساهمة منها في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والتنموي في مناطق بحاجة إلى مشاريع التنمية والاستدامة ودعم الشباب ومكافحة الفقر، فهي مشاريع شكلت رصيدا إضافيا للتحرك الدبلوماسي القطري ومسعى من الدول لإقامة مشاريع مشتركة في هذا المجال الحيوي الذي يساهم في القضاء على العديد من المشاكل التي تواجه بعض الدول في مناطق مختلفة من العالم.
وجسدت زيارة سمو الأمير كأول قائد خليجي إلى ستوكهولم عمق العلاقات التي وصلت إليها دولة قطر ومملكة السويد بعد مرور خمسين عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وفتحت آفاقا جديدة من التعاون والعمل المشترك حيال العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، وشكلت أرضية لبناء المزيد من مجالات التعاون وعقد اتفاقيات تساهم في تحقيق قفزة نوعية في علاقات الصداقة الراسخة والتعاون في شتى المجالات، بما يحقق مصالح البلدين والشعبين، حيث بحث خلال الزيارة رفع مستوى التعاون في مجالات الاستثمار والاقتصاد والطاقة والتعاون الدولي والمستجدات الإقليمية والدولية لاسيما منها تطورات الأوضاع في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
كما شهدت زيارة سمو الأمير إلى مملكة النرويج التوقيع على عدد من الاتفاقيات التي تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية ورفع مستوى التعاون المشترك في المجالات السياسية والاقتصاد والطاقة ومناقشة ما لدى البلدين من فرص تعزز من التعاون المشترك وتساهم في تطوير ونماء علاقات البلدين في العديد من المجالات.
وحظيت زيارة سمو الأمير إلى جمهورية فنلندا الصديقة، التي تعد الأولى لسموه، بترحيب حار، وهو الأمر الذي عكس عمق العلاقات بين البلدين، خاصة أنها شهدت مرور خمسين عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وهو ما ساهم في بحث العديد من الملفات، في مقدمتها أوجه التعاون المشترك والسبل الكفيلة بتعزيزها وتطويرها لاسيما مجالات الاستثمار والاقتصاد والطاقة والتعليم والتعاون الدولي ومناقشة القضايا الإقليمية والدولية.
تبقى دول الشمال الأوروبي بموقعها الجغرافي وامكانياتها السياسية والاقتصادية والصناعية والتكنولوجية هدفا استراتيجيا لأي دولة تسعى إلى توسيع شبكة علاقاتها الاستراتيجية وتستثمر في امكانياتها المختلفة مع كافة الدول الصديقة، وهذا الانفتاح القطري على شمال أوروبا سيكون له أثره الإيجابي في مشاريعها المستقبلية المتعلقة بالتنمية المستدامة والبنية التحتية والتعليم والطاقة، وسيساهم في المزيد من الانفتاح على أوروبا خاصة وأن جولة سمو الأمير شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات التي تشكل الإطار القانوني في تفعيل العمل المشترك بين دولة قطر ودول شمال أوروبا.
ودائما ما تهدف جولات سمو الأمير «يحفظه الله» إلى الدول الشقيقة والصديقة، إلى فتح آفاق جديدة مع هذه الدول والبحث عن فرص التعاون والعمل المشترك في مجالات مختلفة، ووضع أرضية مشتركة لدراسة وبحث القضايا التي تهدد السلم والأمن الإقليمي والدولي، وهو بلا شك ما يعود بالنفع على بلدنا الحبيب بتنوع مصادر الدخل ومشاريع الاستدامة وتحقيق تطلعات رؤية قطر 2030.
محمد حجي - رئيس التحرير المسؤول