تصاعدت المقاومة في الضفة الغربية بشكل ملحوظ في الأشهر الماضية، وبدا أن مجموعات المقاومة المسلحة تزداد عددًا وعدة وقدرة على الفعل، خاصة بعد أن دخلت على الخطّ محافظة الخليل، ذات الثقل السكاني والتاريخ المميز في الفعل المقاوم. بموازاة ذلك، تصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية على المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، وعمدت قوات الاحتلال إلى إحداث دمار كبير في البنى التحتية، لا سيما في طولكرم وجنين.

هذه التطوّرات فتحت نقاشًا بين العديد من الكتّاب والنخب الفلسطينية حول انعكاس هذا التطور على الضفة الغربية والحرب في قطاع غزة، ومدى جدوى العمليات المسلحة في الضفة في كبح جماح العدوان الإسرائيلي على القطاع، وإمكانية استغلال جيش الاحتلال هذه العمليات للقيام بما قام به في غزة من تدمير وقتل وتخريب.

هذا الرأي، وإن كان بعض أصحابه من مناصري المقاومة والمدافعين عنها وعن دورها في قطاع غزة، إلا أنه يعني فيما يعنيه أن تترك غزة وحيدة في مواجهة آلة البطش الصهيونية، وأن يُترك جزء من الشعب الفلسطيني، الذي حكم عليه الاحتلال بالتجزئة القسرية، يعاني ويصمد منفردًا، فيما المكونات الأخرى في الجغرافيات المختلفة تقوم بأدوار محدودة لا تؤثر جوهريًا على سير المعركة، بالإشادة بصمود وبطولة غزة ومواطنيها، والتعبير عن مدى حبّهم وتقديرهم وإعجابهم بهذه الفئة الصابرة المؤمنة، مذكّرين بما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش: «مت كي تعرف كم نحبك».

هذه الفكرة أو الموقف ينطوي على أخطار وأضرار استراتيجية تتعلق بالقضية والشعب الفلسطيني. فماذا يعني عدم مشاركة الضفة الغربية في المواجهة المفتوحة مع الاحتلال بداعي السلامة وتفويت الفرصة؟

أولًا: تكريس التجزئة والانقسام بين مكونات الشعب الفلسطيني، والاستسلام لسياسات الاحتلال وما فرضه من وقائع منذ العام 1948 وحتى اليوم، نجاح الاحتلال بالاستفراد بكل تجمع فلسطيني منفردًا، يعني الاستسلام لهذه السياسة والقضاء على فكرة وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة قضيته.

ثانيًا: التأكيد مرة أخرى، وفي محطة تاريخية غاية في الصعوبة، على الفشل القيادي الفلسطيني المزمن المرتبط بعدم القدرة على مواجهة الاحتلال بشكل جماعي، وتنظيم التجمعات السكانية الفلسطينية المختلفة للانخراط بشكل جماعي في مواجهة مؤثرة مع الاحتلال.

ثالثًا: خلق شرخ عميق لا تزول آثاره بسهولة بين الفلسطينيين في قطاع غزة وبقية الجغرافيا الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية.

وهو ما ينبغي العمل بعكسه تمامًا، لما له من انعكاسات على مستقبل القضية الفلسطينية، والفلسطينيين ووحدتهم ووحدة قضيتهم. كيف يمكن أن يستقيم ذلك مع شعار: «شعب واحد، أرض واحدة، وقضية واحدة»؟ أي ثمن يمكن أن تدفعه الضفة يمكن تعويضه في إطار وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة مصيره ومشروعه.

رابعًا: إن سياسات الاحتلال تجاه الضفة في التهجير والضم، وتقويض أية فرصة لإقامة دولة فلسطينية، مستمرة وتُطبق بشكل هادئ كل يوم. وإن هدوء الضفة الغربية وعدم وجود مقاومة مسلحة فيها لسنوات طويلة لم يكن حاجزًا بين الاحتلال وسياساته، بل خلق بيئة سياسية وأمنية مثالية للاحتلال لتطبيق سياساته.

خامسًا: منطلقات هذه الحرب وأهدافها وطنية بامتياز، وهي ذات صلة مباشرة بقضايا مرتبطة بالضفة الغربية ومستقبلها. فالقدس والاستيطان في الضفة الغربية وما يزيد على 90 % من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال قبل الحرب هم من رجالات وشباب الضفة الغربية. وعليه، فهذه المعركة هي معركة الضفة الغربية بامتياز، ولا يوجد أهداف محددة لها تخص قطاع غزة وسكانه. ولو أرادت المقاومة في غزة البحث عن الخلاص الجزئي «الفردي» لقبلت بعض ما عُرض عليها من حلول خاصة. هذه الحقيقة تضع على كاهل الضفة الغربية مسؤولية خاصة في هذه المعركة.

يقول بعض الداعين لتحييد الضفة الآن إنهم يدركون المخاطر التي تتعرض لها الضفة الغربية والقضية الفلسطينية بشكل عام، وضرورة أن يكون للضفة دور في مواجهة الاحتلال، لكنهم لا يرون أن المقاومة المسلحة الآن هي الأداة الأنسب لهذا الدور.

كما يرون أن تأخر الضفة في الانخراط في هذه المواجهة قد قلّص من أهمية وفاعلية دورها، إذ إن المذبحة والتدمير في غزة قد حدثا، ولن يغير تطور الفعل المقاوم في الضفة الواقع القائم أو يساهم في التأثير على نتائجه. وهو رأي تعوزه الدقة ويفتقد للمنطق، وما الاهتمام الكبير بسلوك الضفة من قبل الأطراف المختلفة، وخاصة الولايات المتحدة وأجهزة أمن الاحتلال، إلا دليل على مدى أهمية وتأثير الضفة الغربية على مشهد الحرب وبيئتها السياسيّة.

كل ما ورد أعلاه لا يعني عدم تفهّم التخوفات المرتبطة بمواجهة مفتوحة مع احتلال غاشم مدعوم من قوى الاستعمار والغطرسة الغربية، خاصة في ظل بيئة سياسية فلسطينية ضعيفة، ناجمة عن غياب قيادة فلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني وطموحاته وقادرة على قيادته في هذه المحطة التاريخية، وكذلك انعكاس الانقسام الداخلي على قدرة الفلسطينيين على الإنجاز، وغياب الظهير العربي والإسلامي والانحياز الغربي الأعمى والدعم والشراكة الأميركية الكاملة في الحرب.

لكن هذه العوامل حاضرة، وبكل أسف، منذ أمد بعيد، وإن انتظار تغيير جوهري عليها لوقف حرب الإبادة ولجم العدوان لا يبدو منطقيًا أو عمليًا. ولا بد لكل فرد أو مجموعة أو تجمع فلسطيني أن يقوم بكل ما يستطيع دفاعًا عن ذاته وقضيته ومستقبله، ومساهمة في لجم العدوان ووضع حدّ للإبادة الجماعية.الجزيرة نت