كان هناك صوت مرتفع ومزاحم بشدة، في الشوارع المحيطة بمبنى الحدث الضخم في شيكاغو، خلال المؤتمر العام الأخير للحزب الديمقراطي، والذي أُعلن فيه ترشيح الحزب لكاميلا هاريس، لخوض انتخابات نوفمبر للرئاسة الأميركية، في زمنٍ حرج للحزب تزامناً مع استمرار دعم البيت الأبيض، غير المحدود وغير المشروط للكيان الإسرائيلي.

دعم تتالى في أوج عملياته الإرهابية وهيكلها النازي، غير المسبوق في الإبادات البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، في نموذجها كحرب مباشرة من جيش دولة محتلة، ضد مجتمع وشعب فلسطيني في إقليم غزة، وهو اليوم يمتد إلى الضفة الغربية، فهذه الإبادة ليست حرباً أهلية، كالتي جرت في بعض مناطق العالم، ولكنها محرقة دولة مشهودة بين الدعم والصمت، أو المعاتبة الخفيفة.

تلك الحشود الضخمة في شيكاغو التي أقلقت الحزب وضغطت على حكومته، كانت تعتمد على الضمير الشعبي الغاضب في الولايات المتحدة الأميركية، والذي جمع أنصاره في هذه اللحظة التاريخية، وبالطبع هناك شراكة من مسلمي أميركا في الفعالية الكبيرة، لكن الحقيقة المهمة، هي أن المجتمع الغربي الأبيض من الأميركيين، كانوا كتلة التغيير الأهم والأقدر إيصالاً للرسالة.

وإن بقيَ صوت المسلمين في الانتخابات له أهمية مؤثرة، في قرار نوفمبر، لكن سياق التاريخ الاجتماعي الذي عرفه الغرب إجمالاً، هو أنهُ لا اعتراف ولا اهتمام، يوازي قرع مواطني المجتمع الغربي ذاته، لأقرانهم الرسميين في أميركا وفي أوروبا.

هذه الحقيقة معروفة، وهي ذات جذور عميقة في مفهوم الفلسفة الغربية، والثقافة السياسية التي بُنيت على أصولها، لكنها مع ذلك اصطدمت بكتلة ضمير إنساني متمرد على الحداثة الغربية رفض مقاييسها، وما أعنيه هنا لولا شراكة هذا المجتمع في الشارع، وفي السوشل ميديا لما كان للضغط الشعبي في الغرب أثره الأقوى، رغم كل جهود العرب والمسلمين، المقدرة في الغرب كمواطنين ومقيمين، في تنظيم هذه الفعاليات وفي المشاركة فيها.

والنموذج الأميركي تكرر لدينا في كندا، وإن بصورة أقل، فعدد الشعب هنا وطبيعة البلد، أقل بكثير من أميركا، ثم قس على ذلك بقية دول أوروبا، وبالتالي أخرجت لنا ملحمة غزة، من عمق الوجدان الغربي، هذا الضمير المتحد الملتحف باسم ضحايا المحرقة، المتبني لصوتهم المخنوق، والمنطلق إلى أكبر المؤسسات السياسية تأثيراً في الغرب، وهو تقريباً التفاعل الشعبي الوحيد، الذي تخشى من تأثيره القوى الحزبية الغربية، ويضغط عليها، بغض النظر عن مساحة هذا الضغط، ومحدودية تأثيره، بسبب طبيعة السياسات الاستراتيجية الكبرى في الغرب، وتعاملها مع الرفض الشعبي، منذ حرب فيتنام حتى الغزو الأميركي للعراق.

غير أن ما نشهده اليوم من موتٍ صوتي وتفاعل اجتماعي متناقص، في الوطن العربي وفي حاضر العالم المسلم، دون جحود لمحاولات الضغط التي تواصلت منذ بدأ المحرقة في أكتوبر 2023، وجرائم إبادة الأطفال الوحشية، عادت لتطويقه منظومة الدولة في عالمنا المسلم، ونجح كالمعتاد في إنقاذ تل أبيب من أي تشكل مسلم، يدفعه الضمير الشعبي الغاضب لإخوانه، في أكناف بيت المقدس، وكان هذا هو الطبيعي، في أن نشهد تحركاً نوعياً للضغط يُهدد مصالح واشنطن الاقتصادية وغيرها، وهي اللغة الوحيدة التي يتعامل معها الغرب.

ومع الفارق بين الدول المشاركة في دعم الحرب الإرهابية، أو الدول الممتنعة عن التأثير، أو الصامتة عبر الرضا العام، أو التي سعت لاتخاذ مواقف محدودة، لم تُقلق أياً من الدول الغربية، ولا جهة الدعم المطلق، بل لم تؤثر على حضور ومصالح وعلاقات الكيان الصهيوني في الدول العربية ذاتها، فهنا النتيجة واضحة، وهي طمأنينة مجرم الحرب النازي نتانياهو، وقاعدة التأييد الصهيونية المؤيدة للإبادة، مواصلته إبادة شعب غزة، قتلٌ يعصر أرواحنا ومهجنا، ولكنه لن ينال من أرواحهم ومكانتهم في الملأ الأعلى، ولا في بقية الشعب الصامد المصابر.

وليس ذلك تجاهلاً لكارثة الحرب على أهلنا وشعبنا في غزة، كما يردد بعض الجهال، ويهوّن من المذبحة وينتظر من غزة أن تفنى عن بكرة أبيها، وهو يراهن على تحرير فلسطين والقدس اليوم، وهو متكئ في سريره أو متنقل في أمنه، صاخب في خطابه أمام الميكرفونات أو جهاز هاتفه، كلا..

فلهم حق الحياة وفريضة الإنقاذ وواجب الدعم، وبذل كل وسيلة لوقف العدوان، وهم في ذلك متصدرين لأهل الأرض في تعبدهم وفي كفاحهم، وفي جهادهم وفي قربانهم إلى الله مولانا ومولاهم، لكن قدر الله في التحرير أدركه سيد المقاومة الشهيد أحمد ياسين، فعمل على مشاغلة العدو المحتل، وبقاء جذوة المقاومة لزمن التحرير، دون أن تُسحق حاضنة المجاهدين العظيمة، في أي ساحات عربية أو إيرانية انتهازية تراعي مشروعها لا دماء المذبوحين، ليبقى للتحرير زمنه الذي لن يُردّ عن القوم الظالمين.