مما يُروى في بابِ أنَّ النَّاسَ لا يتركون أحداً في حاله:
أن جُحا وابنه حزما أمتعتهما للسفر إلى مدينةٍ مجاورةٍ لقضاء حوائجهما التي لا تتوفر في القرى المحيطة، فركبا ظهر الحمار وانطلقا، وعندما وصلا إلى أقرب قرية عليهما قال الناس: يا لهذين القاسيين يركبان ظهر الحمار بلا شفقة ولا رحمة!
فنزل الابن وبقي جحا راكباً، وعندما وصلا إلى القرية التالية.. قال الناس: يا لهذا الأب المستبد يركب ظهر الحمار بينما يتكبد ابنه مشقة المسير!
فنزل جحا وركب ابنه، وعندما وصلا إلى القرية الأخيرة قبل المدينة قال الناس: يا لهذا الولد العاق، يركب ظهر الحمار ويدع أباه يمشي!
فنزل جحا وابنه يمشيان وليس على ظهر الحمار أحد، وعندما وصلا إلى المدينة.. قال الناس: يا لهذين المغفلين، يمشيان ومعهما حمار يصلح للركوب!
جحا بالمناسبة شخصية حقيقية، ليس فيها شيء من العبط الذي يُنسبُ إليها، ولكن الرجل غدا في الناس أيقونة كلما ألّف أحدهم قصة فيها شيء من الحمق نسبها إليه!
تماماً كما أن كل بيت غزلي لا يُعرف له قائل يُنسب لبني عُذرة قبيلة العرب العاشقة!
وكما أن كل رواية غريبة تُنسب للأصمعي، حتى غدا الرجل في ظل الناس كذاباً، وهو في الحقيقة من أوثق العرب رواية وأدقهم أمانة!
وكما أن كل قصة في البخل تُنسب لأهل مرو بعد أن جعلهم الجاحظ قِبلة البخل!
وليس هنا مربط الفرس، ولا اسطبل الكلام!
لهذا أرجع بكم إلى الحكاية التي بدأتُ بها!
الناس هم الناس في كل عصر! هوايتهم المفضلة التدخل في شؤون الناس!
وهم في الغالب يتطوعون لتشخيص مشاكل الآخرين ووضع حلول لها، على الرغم أنهم لو تفرغوا لتشخيص مشاكلهم وحلها لن يكون لهم وقت لمشاكل الآخرين، ولكنها اللقافة والحشرية السَّمتُ الأصيل لقاطني هذا الكوكب!
وأسوأ ما في الأمر أنك أحياناً لا تعرف ما الذي يرضي الناس لتفعله!
فالذي يستشير زوجته عندهم محكوم، والذي لا يستشيرها عندهم مستبد!
والتي تسمع كلام زوجها عندهم ضعيفة الشخصية، والتي لا تسمع كلام زوجها عندهم متسلطة!
الذي يعمل بوظيفتين ليكفي نفسه مسألتهم عندهم يريد أن يأكل الدنيا، ومن يرونه يُسيِّر أموره بالعافية يتساءلون: لماذا لا يبحث عن وظيفة ثانية!
التي تتزوج وتتفرغ لبيتها يقولون عنها مسكينة كانت ذكية وضيّعت نفسها، والتي تتزوج وتقرر متابعة تعليمها يتساءلون: لماذا لا تتفرغ لبيتها!
الذي له صحبة يرافقهم إلى الملاعب والمقاهي عندهم ضائع وبلا هدف، والذي يدرس ويجتهد ويمضي وقته بين الكتب عندهم معقد!
هي حياتك أنت، فعشها كما يحلو لك، ما دمتَ على قناعة أنك تفعل الصواب، ولا تبحث عن قيمتك في أعينهم، يكفي أن تكون كبيراً في عين نفسك!
وإذا كنتَ تعتقد أنه يمكن النجاة من كلام الناس بغض النظر عن الحال التي أنتَ عليها فأنتَ لم تعرف الناس، الناس هم الذين قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر ومجنون!
وعندما لم يجدوا للوط عليه السلام ذنباً قالوا: «أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون»!