قال تعالى: «... إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا... » صدق الله العظيم. كثيراً ما تغنى الاحتلال الإسرائيلي، بتفرده في موازين القوى، وبمكانته الثامنة عشرة بين الدول الأقوى عسكريا، وقوته النووية الخامسة في العالم. وكذلك مزاعمه، ومقولاته الأسطورية، حول جيشه الذي لا يُقهر!. والتباهي بما يملكه من «قبة حديدية» -نظام دفاعي متحرك لاحتواء ومواجهة الصواريخ القصيرة المدى والقذائف المدفعية في مختلف الأحوال الجوية-، بجانب ترسانة الأسلحة الضخمة، المتنوعة: مدفعية، بحرية، وجوية، بما فيها أسراب الطائرات، والقنابل الذكية، وأجهزة استشعار عن بعد، تسمح بالرؤية من خلف الجدران؛ مع دعم أميركي مفتوح، وبلا حدود.

وقد يبدو من الوهلة الأولى، أن هناك اختلالا في موازين القوى، ولا منطقية للمقارنة بين القدرات العسكرية الصهيونية الفائقة، وإمكانيات المقاومة الفلسطينية، وحركة «حماس»؛ التي بدأت بتصنيع صاروخ «القسام 1» (عام 2001م.)، بحمولة تفجيرية متواضعة؛ فتهكم، وسخر منه البعض، بما فيهم مسؤولين فلسطينيين، وعرب، ووصفوها بأنها «صواريخ عبثية». إلا أن عملية «طوفان الأقصى» يوم السابع من شهر أكتوبر (عام 2023م.)، أثبتت أنه ليس بكثرة العدد ولا قوة العتاد، تُحسم كل المعارك؛ فهناك سلاح آخر، هو الإيمان بنصر الله، مع الأخذ بأسبابه من «صبر، وقوة إرادة». حتى أن المقاوم الفلسطيني، الذي يدافع عن أرضه، يتربى على عقيدة إحدى الحسنيين؛ فإما النصر واستقلال الوطن، أو الشهادة في سبيل الله؛ فينال الجنة.

ولم يترك رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي، اليميني المتطرف «نتانياهو»، طريقاً؛ إلا وسلكه، ولا حيلة؛ إلا ولجأ إليها، من أجل تحطيم سلاح الإرادة والصمود عند المقاومة الفلسطينية. حتى أنه وفي مواضع كثيرة؛ قد جرب اللعب على أوتار «الصبر» عند المواطن الفلسطيني، وآخرها ما يقوم به من توحش، وجرائم إبادة في قطاع غزة، ضد المدنيين العزل، من النساء والأطفال، والشيوخ؛ الذين استشهد منهم أكثر من 40 ألف، وما يزيد عن 90 ألف مصاب وجريح، غير المفقودين، ومع تدمير كامل للبنية التحتية، ولأكثر من أحد عشر شهراً، منذ السابع من شهر أكتوبر العام الماضي؛ ومع ذلك لم تلن عزيمة الفلسطينيين، المتمسكين بأرضهم، والمدافعين عن وجودهم في مواجهة المحتل.

ووحدهم أهل قطاع غزة، يعانون، يقاومون، وصامدون في ميدان المعركة أمام آلة البطش الصهيونية!. وفي كل يوم، يتساقط من بينهم الشهداء والمصابين، فيزفوا الشهيد؛ حتى يواري الثرى، ويسعفون الجرحى؛ ثم يعودون من جديد لمواجهة قوات الاحتلال الصهيوني الغاصب. والمجتمع الدولي من حولهم، يشاهد في صمت؛ وكأن الضمير العالمي، أصابه التبلد، وفقد إنسانيته!.

وهذا المشهد جسدته كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش بقوله: «مُت كي تعرف كم نُحبك».

وجاءت كلمات «درويش» لتدق ناقوس الخطر، من مؤامرات الحكومات الإسرائيلية الصهيونية دوماً؛ والتي دأبت على مخططات التجزئة القسرية للشعب الفلسطيني. حتى أنه إذا ما اشتكى عضو منه، فلا ترى باقي الأعضاء تتداعى له. وبالتالي تظل الأدوار التي تقوم بها المكونات الأخرى في الجغرافيات المختلفة، هامشية، ولا تؤثر بشكل جوهري وملموس، على سير العمليات في ميدان المعركة؛ ولا تحدث أي تغيير في موازين القوى. وهنا تكمن الخطورة على مستقبل القضية الفلسطينية؛ حيث إنه لا معنى لصمت باقي مدن الداخل الفلسطيني، ولا لغيرهم، من عدم القيام بأي ردود أفعال عملية ومؤثرة، بحجة تفويت الفرصة على الكيان الصهيوني، من القيام بتكرار ما فعله في غزة.

وهكذا أراد الاحتلال الصهيوني، ووضع مخططاته، من أجل أن تسود ثقافة الاستسلام؛ والتي حاول أن يفرضها، منذ النكبة، في نهاية النصف الثاني من القرن العشرين، ومازالت سائدة حتى اليوم!. حيث عمل، ولعقود طويلة على خلق ظروف متباينة بين الفلسطينيين، وتجمعاتهم السكانية، من فلسطينيي 48، الضفة الغربية، قطاع غزة، الشتات. وذلك بهدف فصلها عن بعضها البعض، على مختلف الأصعدة: سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، وبالتالي يمزق النسيج التفاعلي لجينات الشعب الواحد. حتى قد يفاجئك من يقول لك: «إن المعركة الدائرة الآن تصفية حسابات بين «حماس» و«نتانياهو». وهذه النغمة النشاز، من شأنها أن تخلق «شرخاً داخلياً فلسطينياً عربياً». إذ لن ينس الغزاويين يوماً، مواقف من خذلوهم.

وإنه ما لم يتم ترميم هذه الشروخ البينية، في التفاعلات الفلسطينية الداخلية، والفلسطينية العربية، وإعادة إحياء شعار «شعب واحد، أرض واحدة، وقضية واحدة»؛ فإن الأمور مرشحة للاتجاه نحو حافة الانقسامات؛ ليصب ذلك في خدمة مشروع الاحتلال الصهيوني. بل وسوف يعطي «نتانياهو» الفرصة؛ حتى يروج بضاعته الراكدة، والكاسدة، في محاولة منه، لكسب ثقة الشارع الإسرائيلي؛ والتي فقدها، بسبب خداعه له. ولذا فإنه يسعى إلى أي «نصر كاذب» من الحرب على «غزة» ليقدمه للجميع في داخل إسرائيل، بمن فيهم اليمين المتطرف، تبريراً لقبوله بصفقة وقف الحرب، وإنهاء ملف تبادل الأسرى الإسرائيليين المختطفين، واستعادتهم من يد «المقاومة» في غزة، خاصة بعد أن ضاقت إدارة الأميركية ذرعاً، بعمليات التصعيد في المنطقة، وباتت تشعر أن مصالحها الاستراتيجية مهددة في الشرق الأوسط.

وغداً، سوف يُسدل الستار على أطول حرب، يشنها الاحتلال الصهيوني، ضد الفلسطينيين، ويختفي وميض «نتانياهو» من الحياة السياسية؛ لتبدأ مرحلة جديدة في حياته داخل دهاليز المحاكم، مطارداً، وملاحقاً بالعديد من ملفات القضايا المفتوحة له؛ والتي قد تنتهي به خلف أسوار السجن. وأما المقاومة الفلسطينية، و«حماس» فسوف تواصل صمودها، ونضالها في ميدان المعركة، ومتسلحة بالصبر، دون أي اعتبار لاختلاف موازين القوى، من أجل التحرر، وإقامة دولة فلسطين المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.