+ A
A -
عبد الباسط سيدا - كاتب سوري

بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي باتت على الأبواب، ستواجه الإدارة المقبلة جملةَ تحدّيات على المستويَين الداخلي والخارجي. على الصعيد الداخلي، يعاني المجتمع الأميركي من انقسامات حادّة تستدعي المعالجةَ لتجاوز الاستقطابات التي تشكّلت بفعل الخطابات الشعبوية التي اعتمدها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وسيلةً لحصد مزيد من التأييد بين صفوف أصحاب التوجّهات العنصرية، والشرائح المحدودة الثقافة والدخل من الأميركيين البيض، الذين يشعرون بالتهميش والظلم نتيجة تزايد أعداد المهاجرين، وهيمنتهم على سوق العمل، واستحواذهم على الفرص، وتسبّبهم في انتشار الجريمة، وتهرّبهم من الضرائب... إلى ما هنالك من تفسيرات غير واقعية، يجد فيها ترامب مادّةً حيويةً يعتقد أنّها ستمكّنه من خلال إثارتها وتكرارها وكأنّها حقائق مُسلّم بها، من دون أيّ سند بحثي أو إحصائي موضوعي، من كسب تأييد أوساط شعبية واسعة تستسيغ عملية تحميل الغرباء مسؤوليةَ معاناة أبناء الوطن، الذي يحتاج إلى استرجاع عظمته.

ولا يخفى في هذا السياق أنّ هذا التوجّه الترامبي الشعبوي، الذي اتّخذ من المهاجرين القادمين من أميركا اللاتينية ومن الآسيويين والأفارقة والمسلمين أكباشَ فداءٍ على مذابح الإخفاقات وتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، قد تحوّل قوّةً دافعةً للجهات الشعبوية التي يُشجّعها الخطاب اليميني المُتطرّف في الدول الأوروبية، الشرقية منها والغربية، بل امتدّ هذا التأثير إلى خارج القارّة الأوروبية، ليكون وسيلةً مبتذلةً لكسب الأصوات عبر التناغم مع العواطف العنصرية.

اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط الاتحاد السوفياتي، نلاحظ أن روسيا رغم مواردها الضخمة وأراضيها الواسعة، ما زالت تعاني تخلّفاً مذهلاً في ميدان التكنولوجيا، واستنزافاً متوحّشاً للموارد من مجموعة من المسؤولين، ومن مافيات المستفيدين.وبناء على هذه الوقائع، يستنتج المرء أنّ روسيا لم تعد بأيّ شكلٍ من الأشكال تمثّل قوّة منافسةً للولايات المتّحدة، رغم أنّها تمتلك ترسانةً نوويةً، ولكن حتّى هذه الترسانة يدور حولها كثير من الشكوك والجدل بشأن حقيقة فعّاليتها، وقدرتها الردعية، قياساً إلى ما تمتلكه أميركا وحليفاتها من الدول الغربية.

وتبقى الصين القوّة الأكثر أهمية، التي تتحسّب الولايات المتّحدة لصعودها ولتقدّمها في سائر المجالات بألف حساب وحساب. فبالإضافة إلى القوّة الاقتصادية المتعاظمة للصين بفعل استفادتها من الأيدي العاملة الرخيصة المعروفة بصبرها وقدرتها على تحمّل الصعوبات في العمل، إلى جانب خضوعها للأوامر الصارمة الصادرة عن القيادة الشيوعية للبلاد واعتمادها في الوقت ذاته على التكنولوجيا الغربية المتطوّرة، التي حصلت عليها بطرق عدّة بأبخس الأثمان، أو من دون أيّ مقابل، وذلك قبل أن تتّخذ الولايات المتّحدة وعدد من الدول الغربية الإجراءات المتشدّدة للحيلولة دون وصول التكنولوجيات الغربية المتطوّرة إليها.

ولكن يبدو أنّ هذه الإجراءات جاءت متأخّرةً بعض الشيء، إذ تمكّنت الصين، بعد عقود من تراكم المعارف والخبرات لديها، من التقدّم في مختلف الميادين، سواء في المجال الاقتصادي أو العسكري أو الذكاء الاصطناعي. وأصبحت من أشدّ المنافسين للدول الأوروبية في مجالات تصنيع السيارات البيئية، ووسائل الاتصالات. وهي اليوم تعمل من خلال مبادرة الحزام والطريق على دمج إفريقيا بمجالها الحيوي الاقتصادي، عبر تقديم القروض والمساعدات إلى الدول الإفريقية لبناء البنى التحتيّة المطلوبة لتطوير الطرق والموانئ، وتنفيذ المشاريع الاقتصادية. وهناك محاولات صينية للوصول إلى منطقة الشرق الأوسط بغية الاستفادة من أسواقها ومواردها النفطية، وهي تستعدّ لاستغلال الفراغ الذي يمكن أن يحدث نتيجةَ الانسحاب الأميركي والغربي عموماً من المنطقة، أو تخفيف الوجود فيها.

من جهة أخرى، تشكو الصين باستمرار من تحرّكات أميركا المريبة بالنسبة إليها في جوارها، بالتعاون مع حليفات واشنطن في المنطقة، مثل كوريا الجنوبية، والفيليبين، وأستراليا، واليابان. هذا، بينما تحاول الهند، رغم خلافاتها العميقة مع الصين، الحفاظ على استقلاليتها، والابتعاد قدر الإمكان عن الاصطفافات الإقليمية والدولية، وذلك ربّما استعداداً لدور ريادي يتناسب مع حجم الهند وخططها المستقبلية الطموحة.

إلى جانب هذه التحدّيات التي ستواجهها الإدارة الأميركية المقبلة، هناك تحدّيات أخرى كبيرة تخصّ المناخ والصّحة والفقر وغيرها من التحدّيات بنتائجها الكارثية. والسؤال المحوري، بخصوص التحدّيات المشار إلى قسم منها، هو هل تستطيع الخطابات الشعبوية مقاربة هذه المسائل الجادّة المعقّدة، ووضع الحلول المستدامة لها؟ أم أنّ الموضوع برمته يحتاج إلى مراجعة شاملة في ضوء التطوّرات والمتغيّرات التي كانت على المستوى العالمي في آخر ثلاثة عقود؟ أم لم تعد الحلول الترقيعية قادرة على معالجة قضايا استراتيجية تستوجب حلولاً استراتيجية، تتعاون مختلف الدول في ما بنيها من أجل الوصول إلى حلول مناسبة بشأنها؟

ذلك كلّه يتطلّب تحديث المؤسّسات الأممية، لا سيّما الأمم المتّحدة، بغية إفساح المجال أمام المشاركة العادلة لممثلي جميع القارّات والتجمّعات الإقليمية والدول في اتخاذ وتنفيذ القرارات بشأن الصراعات والأزمات المفتوحة، والمشكلات المزمنة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر النزاع العربي الإسرائيلي، والأزمات السورية واليمنية والليبية والسودانية واللبنانية، وغيرها الكثير من الأزمات والنزاعات في إفريقيا وأميركا اللاتينية. والأمر اللافت هنا أنّ القاسم المشترك بين هذه الأزمات والنزاعات كلّها يتجسّد في أنّها عميقة مُؤثّرة، تهدّد الدول والمجتمعات على المستويين البنيوي والوجودي.

copy short url   نسخ
18/09/2024
10