لا يوجد حيوان يتمتع بمرونة هائلة تشبه إيقاف الزمن مثلما يفعل «التارديغرادا»، وهو مخلوق يتمتع بقدرة هائلة على الصمود لدرجة أنه يكاد يوقف الزمن تقريبًا، أما السلاحف حمراء الأذنين التي تعيش في المياه العذبة، فتستطيع البقاء على قيد الحياة لفترة تصل إلى ستة أسابيع بدون أكسجين تحت الجليد، كما يمكنها الاستمرار ليومين بدون أكسجين في درجة حرارة الغرفة، وبالنسبة لثعابين البايثون، فإن القوة الخاصة التي تتمتع بها هي التجدد السريع، إذ تستطيع هذه الثعابين أن تجوع لأشهر، قبل أن تلتهم حيوانًا كاملا دفعة واحدة.
ومن أجل الحفاظ على طاقتها، تسمح هذه الثعابين لأعضائها الداخلية بالتقلص والتجدد بين الوجبات. في هذه المادة المترجمة من نيوساينتست نتعرف على مجموعة من أعاجيب الخلق في عالم الحيوان. قد تبدو فكرة امتلاك البشر لمثل هذه القدرات المدهشة غير واقعية للوهلة الأولى، ومع ذلك فهي ممكنة مع اكتشاف أن هذه القدرات مدعومة بجينات وعمليات بيولوجية موجودة بالفعل لدى البشر.
تقضي السلحفاة الغربية المزركشة أشهرًا في حالة سبات تحت طبقة من الجليد، محبوسةً في بيئة خالية من الهواء تقريبًا. وما إن يحل الربيع ويذوب الجليد، حتى تبدأ هذه السلحفاة في نفض أثر السبات عنها تدريجيًا، فتتحرك مخالبها، ويستعيد دماغها نشاطه، وتدفع برأسها الثلجَ الذائب لتتنفس الهواء لأول مرة بعد أشهر من السبات. والشيء الذي يجعل هذه السلحفاة استثنائية هو قدرتها على البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة رغم نقص الأكسجين، وهو الأمر الذي قد يقتل إنسانًا في غضون دقائق.
حققت هذه السلحفاة رقمًا قياسيًا بين الحيوانات ذات الأرجل الأربع في البقاء على قيد الحياة بدون أكسجين لمدة تزيد عن 100 يوم، ومع ذلك فهي ليست المخلوق الوحيد الذي يتمتع بمواهب مذهلة كهذه في عالم الحيوان، إذ توجد مجموعة من القدرات الرائعة في مملكة الحيوان؛ تبدو خيالية.
فمن بين هذه القدرات، تجديد الأعضاء الداخلية بالكامل تقريبًا، والقدرة على تجنب الشيخوخة والسرطان، والنوم بلا حراك لشهور دون أن تتضرر العظام أو العضلات، بجانب إبطاء الوقت البيولوجي أو حتى الدخول في حالة توقف كامل عن النشاط البيولوجي، مما يسمح لهذه الكائنات بالبقاء على قيد الحياة في ظروف شديدة القسوة. بمعنى أن حالة كهذه يمكن أن تحمي الكائنات من مجموعة واسعة من التحديات أو الظروف القاسية، مثل التجمد أو التعرض لأشعة غاما.
تبدو فكرة امتلاك البشر لمثل هذه القدرات غير واقعية للوهلة الأولى، ومع ذلك تبدو الفكرة ممكنة مع اكتشاف أن هذه القدرات مدعومة بجينات وعمليات بيولوجية موجودة بالفعل لدى البشر. صحيح أن التطبيقات المحتملة لمثل هذه القدرات ما زالت أهدافًا بعيدة المنال، مثل وضع البشر في حالة سبات أثناء سفرهم إلى الفضاء، إلا أن ثمة تطبيقات أخرى تبدو أكثر واقعية، مثل الحفاظ على الأعضاء المزروعة دون الحاجة إلى تبريد، وتطوير أساليب جديدة لمكافحة السرطان والشيخوخة. أما الفكرة الأقرب إلى الواقع فهي مشروع بحثي أطلقته الولايات المتحدة للاستفادة من قدرات الحيوانات في مساعدة الجنود المصابين في ساحة المعركة.
وتعليقًا على ذلك، تقول روشيل بوفنشتاين، من شركة كاليكو، وهي شركة تكنولوجيا حيوية في كاليفورنيا مدعومة من شركة غوغل وتهدف إلى مكافحة الشيخوخة: «سيكون هذا أمرًا مذهلاً للغاية». لطالما أثارت القدرات المذهلة للحيوانات دهشة العلماء، وكان يصعب في السابق فهمُ الأسس الجينية التي تدعم هذه التكيفات. ولكنْ تغيَّر هذا مع ظهور ما يسمى مجال «الأوميكس»، وهو مجموعة من التقنيات العلمية التي تهدف إلى دراسة الجزيئات البيولوجية في الكائنات الحية، وتكشفُ التعليمات الموجودة في جميع جينات الحيوان (الجينوم)، وكذلك النشاط المتغير لهذه الجينات، وغيرها من الجزيئات الحيوية الأخرى استجابةً للتغيرات البيئية.
يُجري العلماء حاليًا تحليلا لتسلسل الحمض النووي لكائنات حية تتمتع بخصائص مدهشة لفهم تركيبها الجيني الكامل، ليساعد في اكتشاف الأسس الجينية والبيولوجية التي تدعم القدرات والخصائص المدهشة لهذه الحيوانات. ومن خلال دراسة هذه الجينومات، يمكن للعلماء فتح أبواب جديدة لفهم العمليات البيولوجية التي تمنح هذه الحيوانات قدراتها الفريدة، وتحديد الجينات والعمليات الخلوية المرتبطة بهذه القدرات لدراستها على نحوٍ أعمق.
من جانبها، تقول سارة ميلتون، من جامعة فلوريدا أتلانتيك بالولايات المتحدة: «لقد أصبح بوسعنا رؤية وفهم جوانب بيولوجية لم يكن بالإمكان ملاحظتها أو دراستها من قبل».
إن اهتمام ميلتون مُنصبّ على دراسة السلاحف، وبالأخص أدمغتها. ورغم أن السلاحف حمراء الأذنين التي تعيش في المياه العذبة ليست بمستوى السلاحف المزركشة في التحمل، فإنها تستطيع البقاء على قيد الحياة لفترة تصل إلى ستة أسابيع بدون أكسجين تحت الجليد، كما يمكنها الاستمرار ليومين بدون أكسجين في درجة حرارة الغرفة. هذه القدرة الاستثنائية على حماية الدماغ تُعتبر إنجازًا مذهلا، إذ عادةً ما تستهلك الأدمغة الكثير من الطاقة للحفاظ على التوازن السليم للشحنات الكهربائية داخل الخلايا وخارجها. فمثلًا، عندما يُقطع إمداد الأكسجين عن الإنسان كما يحدث في السكتة الدماغية، يحدث انهيار في الطاقة، مما يؤدي إلى تعطيل مضخات الشحنات الكهربائية عبر أغشية الخلايا العصبية. هذا الخلل الكهربائي يؤدي إلى إطلاق كميات سامة من الإشارات الكيميائية (المعروفة بالنواقل العصبية*) إلى الخلايا المجاورة، مما يفجِّر مزيدًا من الفوضى الكهربائية وموت الخلايا.
لكن إحدى المفارقات العجيبة، أن إعادة إمداد الخلايا بالأكسجين بعد انقطاعه يمكن أن تؤدي إلى نتائج أسوأ بكثير، فعندما تعود الخلايا التي استُنزفت طاقتها بسبب نقص الأكسجين إلى توليد الطاقة من جديد، فإنها تُنتج مُركبات ضارة تُعرف بمركبات الأكسجين التفاعلية، قد تسبب ضررًا للخلايا وتقتل المزيد منها.
وللبقاء على قيد الحياة بعد عودة الأكسجين، تتبنى السلاحف حمراء الأذنين عدة إستراتيجيات، إحداها تعديل عملية الأيض لديها بحيث تُنتج كميات أقل من هذه المركبات الضارة، كما تصنع بروتيناتٍ خاصة تحمي الخلايا من التلف. وما قد يثير الانتباه أن البشر يتمتعون بدفاعات مشابهة، لكننا نستخدمها استخدامًا مختلفًا. فعلى سبيل المثال، نزيد من إنتاج هذه البروتينات بعد حدوث الضرر، في حين تُنتجها السلاحف باستمرار. وحسبما ترى ميلتون، فإن هذه التشابهات بين البشر والسلاحف تبعث على التفاؤل، لأنها تشير إلى إمكانية تعديل العمليات البيولوجية لدى البشر لجعلها أشبه بتلك الموجودة لدى السلاحف. وتمتد التطبيقات الطبية المحتملة لهذه الفكرة لتشمل أي حالة يكون فيها نقص الأكسجين مشكلة، مثل السكتة الدماغية والنوبات القلبية.
جرذان لا تشيخ أبدًا
تتمتع حيوانات أخرى بقدرات خارقة تُمكّنها من تحمل التجمد والذوبان، مثل الضفدع الخشبي أو الضفدع الحرجي، الذي ينجو من الشتاء القارس في كندا عن طريق تجميد ما يصل إلى ثلثي جسمه، لدرجة أن هذا الجزء المُجمد يُصدر صوتًا إذا ما نُقِرَ عليه برفق. وعن ذلك، يقول كين ستوري، من جامعة كارلتون في كندا: «تستمر التفاعلات البيوكيميائية عند درجة حرارة -5 مئوية، ولكن بمعدل أبطأ بنحو 10 آلاف مرة من المعدل الطبيعي». والسر وراء بقاء هذا الضفدع على قيد الحياة، هو إنتاج مادة كيميائية تحمي خلاياه من الجفاف أثناء عملية التجميد، فعندما يتجمد الماء في المناطق المحيطة بالخلايا، تمنع هذه المادة الكيميائية سَحب الماء من داخل الخلايا، مما يحميها من الانكماش أو التلف نتيجة التجمد، وبالتالي، تُقدِّم هذه القدرة فكرة عن حل ممكن لمشكلة طبية ملحّة.
في الوقت الحالي، يُعد الحفاظ على الأعضاء البشرية لعمليات زراعة الأعضاء أمرًا صعبًا، لأن طرق التجميد التقليدية تؤدي إلى تدمير الأعضاء. ونتيجة لذلك، تتضرر أكثر من 60 % من القلوب المُتبرع بها كل عام. وحاليا، يحاول فريق من جامعة هارفارد الاستفادة من استراتيجية «التجميد الجزئي» التي يتبعها الضفدع الخشبي أو المتجمد، للحفاظ على الأعضاء بشكل أفضل.
على الجانب الآخر، يتبع ستوري نهجاً مختلفاً في التعامل مع هذه المشكلة، ويستلهم فكرته من الحيوانات التي تُبطئ الزمن البيولوجي دون أن تتجمد، ويضيف قائلا: «هذا هو الأفق الجديد، البقاء دافئاً مع توقف معظم وظائف الجسم الحيوية»، فبعض الحيوانات التي تدخل في حالة سبات في درجات حرارة دافئة هي الثدييات، ومن بينها الرئيسيات، وهي من أقرب الأنواع إلينا، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالية أن الإنسان احتفظ على الأقل ببعض الآليات البيولوجية اللازمة لإبطاء معدل الأيض بدرجة كبيرة، كما تفعل هذه الحيوانات..واكتشف ستوري وفريقه وجود «مخطط» عام أو نموذج مشترك من الاستجابات البيوكيميائية في الخلايا التي تساعد في تقليل معدل الأيض. بمعنى آخر، وجدوا أن هناك مجموعة من التفاعلات الكيميائية التي تحدث في خلايا الكائنات الحية لتقليل نشاط الأيض بصورة فعالة، وهي استجابات بيولوجية تشترك فيها مجموعة متنوعة من الكائنات الحية، وقد تكون مفتاحًا لفهم كيفية تقليل الأيض بصورة آمنة وفعالة لدى البشر.