وجّه المجتمع الدولي أنظاره مساء الثلاثاء الماضي صوب مدينة نيويورك ليتابع بشغف حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه، وهو يلقي خطابه في الجلسة الافتتاحية للمناقشة العامة رفيعة المستوى للدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بحضور وفود الدول الأعضاء المائة وثلاث وتسعين يرأسها قادتها صناع القرار في العالم من الملوك والرؤساء والأمراء، الذين جلسوا منصتين بأذن واعية، مندهشين مشدوهين لما اشتمل عليه الخطاب من لهجة غير تقليدية وغير معتادة في الخطاب العربي.
جاء الخطاب مركزا على القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين الأولى وشغلهم الشاغل، مستبعدا قضايا أخرى حيوية توقع جميع المحللين أنها ستكون ضمن الخطاب، كالتغير المناخي ومكافحة الفقر والجهل والمرض والبطالة، ليقول للمجتمع الدولي إن قضية فلسطين هي الأهم وذات الأولوية دونها كل القضايا، جاء الخطاب أقوى مما اعتقد أكثر المتفائلين والحالمين، ومفاجئا في الوقت نفسه لقادة الكيان الصهيوني رموز الإجرام، فمما لا شك فيه أنه سقط في أيديهم وهم يستمعون إليه، وقد تجاوز مجرد عبارات الشجب والاستنكار إلى حقيقة أنهم لن يفلتوا بجرائمهم دون كشفهم وتعريتهم وفضحهم وتبديد أوهامهم، وحث صناع القرار في العالم على أن ينفضوا عن أنفسهم العجز والخذلان والتحرك الفوري لوقف هذه الإبادة الجماعية، وحث المتواطئين مع الكيان الصهيوني على إيقاظ ضمائرهم.
في مستهل الخطاب وصف سمو الأمير المفدى قطاع غزة وسكانه وصفا دقيقا بأنه معسكر اعتقال محاصر، لم تمنع إسرائيل عن ساكنيه الغذاء والكساء والدواء وحسب، وإنما أيضا تصب عليهم بأحدث الطائرات وآلات القتل الفتاكة وابلا من القنابل والنيران منذ عام على مرأى ومسمع من هذا العالم الذي يدعي الإنسانية وترسيخ قيم العدل والمساواة، فقتلت حوالي أربعين ألف شهيد من الأطفال والنساء وكبار السن، وأصابت مائة ألف مواطن بعجز كامل، لا يمكنه من مواصلة حياته بشكل طبيعي، ولا يمكنه حتى الحصول على العلاج، فالتدمير أتى كاملا على المستشفيات بما فيها من أجهزة وأدوية ومختبرات، ولم يستثنِ حتى المساجد والكنائس والمدارس، فالسلوك الإسرائيلي في هذا العدوان سلوك همجي قد تجرد من كل القيم والأعراف.
لم يسبق أن عرفت البشرية مثل هذا الإجرام على مر التاريخ، ولم يسبق أن مارسته أشد الجيوش عداوة وضراوة حتى في القرون الأولى، ولكنه للأسف يحدث على أيدي الصهاينة في القرن الواحد والعشرين، لذلك وصف سمو الأمير المفدى، حفظه الله ورعاه، السكوت عن هذه الجرائم وعدم التدخل لوقفها بالفضيحة الكبرى، أي كل حاكم لا يتحرك ويتخذ إجراء أو خطوة ما لوقف هذه الجرائم الإسرائيلية الهمجية هو في دائرة الفضيحة، ولن يذكره التاريخ بخير، لسبب واضح هو أنه لم يعد بوسع أي مسؤول الادعاء أنه لا يعلم، فالحقائق معروفة والتقارير الموثقة صوتا وصورة عن القتل وقصف المدارس والمستشفيات واستخدام الغذاء سلاحا أصبحت في متناول الجميع.
مما ورد في الخطاب ومن المؤكد أنه قضَّ مضاجع قادة الكيان الإسرائيلي وأقلقهم، وبدّد أوهامهم وأحلامهم، استحالة أن ينعموا بالسلام والاحتلال معا، فهذا وهم ومحال، وقضية فلسطين عصية على التهميش لأنها قضية سكان أصليين يعيشون على أرضهم جاء مغتصب ينتزعها منهم، لذلك ليس بمقدور قادة إسرائيل الادعاء بأنهم يدافعون عن النفس، بل إن الفلسطينيين هم من لهم حق الدفاع عن النفس لأن الأرض أرضهم.
ولكي يُبقِي سموه أبواب الأمل مفتوحة تناول دور الوساطة الذي تقوم به قطر بالتعاون مع جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأميركية، مؤكدا أنها مستمرة رغم التعنت الإسرائيلي لأنها خيار استراتيجي وواجب إنساني، وقد أثمرت الوساطة اتفاق هدنة إنسانية في شهر نوفمبر الماضي، أدى إلى وقف مؤقت لإطلاق النار في قطاع غزة وإطلاق سراح 240 من الأسرى الفلسطينيين و109 من المحتجزين في غزة، ورفع مستوى تدفق شحنات الإغاثة، ونحن نعرف عن سموه، حفظه الله ورعاه، رؤيته في هذا الصدد، مفادها أن أية تسوية سلمية مهما طال أمدها تبقى خسائرها أقل تكلفة من خسائر الحرب، رغم تعنت الطرف الإسرائيلي ومحاولته عرقلة التوصل إلى اتفاق بكل الطرق بما فيها اغتيال القيادات السياسية التي يفاوضها، أي اغتيال إسماعيل هنية القائد السياسي لحركة حماس، وأول رئيس وزراء فلسطيني منتخب.
ولكي يبرهن سموه، حفظه الله، على غريزة الشر ونزعة القتل لدى الكيان الإسرائيلي بصرف النظر عمن يقتل إن كانوا من النساء أو الأطفال أو كبار السن، تناول في خطابه جريمة تفخيخ وسائل الاتصال اللاسلكية النكراء وتفجيرها بآلاف اللبنانيين في لحظة واحدة دون أخذ هويتهم أو مكان تواجدهم في الاعتبار، فهذه سيدة في متجر تبتاع وتشتري تُفاجأ بالجهاز في حقيبتها وقد انفجر وبدلا من أن تعود إلى بيتها تجد نفسها في المستشفى تلفظ أنفاسها الأخيرة، وطفل يلهو بكل براءة يتم تفخيخه ولا يعلم بأي ذنب قتل، ورجل لا حول له ولا قوة يقتل بلا ذنب اقترفه، وهكذا يتفنن هذا الكيان في طرق القتل وارتكاب الجرائم، وها هو سمو الأمير المفدى يحذِّر من مواصلة الحرب على لبنان قبل فوات الأوان، وقبل تدهورها إلى مصير لا تُعرف له نهاية ولا تُحْمد عقباه، ويعلم قادة الكيان أن هذه الحرب لن تجلب الأمن لشمال إسرائيل أو للبنان، وأن مفتاح الأمن هو السلام العادل.
وكأني بسمو الأمير، حفظه الله ورعاه، يدعو العرب إلى عهد جديد قوامه الصلح والوئام ونبذ الشقاق، فقد طالب الفرقاء في كل من سوريا والسودان واليمن وليبيا بحل الخلافات بينهم عن طريق الحوار والتفاهم، وتغليب مصالح الشعوب ببدء عهد جديد يمهد لمستقبل يتسم بالاستقرار والازدهار، ولم يتجاهل سموه الحرب الروسية الأوكرانية التي تسببت في مآسٍ إنسانية، ودعا طرفيها إلى تطبيق أحكام ميثاق منظمة الأمم المتحدة، وقواعد القانون الدولي، والعمل على إيجاد حل سلمي، والتسوية السلمية بالنسبة لدول قطر خيار استراتيجي لأن التنمية والازدهار والأمن والرفاهية والعيش الكريم كلها لا توجد في مكان يعاني من الحروب.
خطاب استثنائي غير تقليدي نتمنى على جامعة الدول العربية وأمينها العام ومنظمة التعاون الإسلامي وأمينها العام أن يعتبراه رسميا وثيقة مبادئ أو أساسا متينا لتعامل العرب والمسلمين مع قضية فلسطين من الآن فصاعدا، واتخاذ كل قراراتهم ومواقفهم بناء عليه، بأن إسرائيل لن تفوز بالاحتلال والسلام معا.
جاء الخطاب الذى تفاعل بإيجابية مع الحق الفلسطيني منذ بدء العدوان على غزة قبل نحو عام، خطاب شدّ من أزر أصحاب الضمائر، وكفكف دموع الثكالى، وربت على قلوب اليتامى، ونشَّط الرأي العام العربي ضد العدوان من جديد بعد أن بدأ يفتر بمرور الوقت.