كما أشرنا في المقال السابق، فإن ظروف الإقامة في الغرب، بعد التطورات السياسية الكبيرة، باتت تمثل باقة تحديات لم تكن موجودة في هجرات العهد السابق، للأسرة أو للمجتمع، وكحلٍ فردي لأي أسرة مسلمة هذا يقوم على مساحة النسبية في الظرف، وفي الخيار المقابل، ثم الحكم عليها بالقاعدة الإسلامية في معرفة حجم المصالح والمفاسد، وتفصيل هذه القاعدة في الشريعة له محدد رئيسي في الأصل الآخر لها، وهو: درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

ففي حالة الأسرة يكون فقدان أحد الأطفال، بسبب فرض الوصاية الحكومية عليه أو على ضميره، وتحوله لخصم للأسرة دون أي مبرر أخلاقي، ولا عدالة اجتماعية تراعي مسؤوليه الفطرة واتحاد الأسرة فيها، أو انهيار المنزل بوقوع خلاف يؤدي إلى الطلاق وتعريض الأبناء للضياع، أو أي جائحة نفسية أخرى، كالتورط في عالم المخدرات، الذي تزداد مساحة التشريع لتعاطيه في الغرب كل عام، كل هذه الصور كارثة اجتماعية في قيمنا الإسلامية وإنسانيتنا الطبيعية.

كل ذلك يحتاج من الأسرة النظر في النجاة من هذه المخاطر، التي في نهاية الأمر تهدم كل الحلم الذي جاؤوا من أجله إلى بلد مستقر، وفُرص آمنة ومعيشة أفضل، والنظر إلى المقابل الراجح برؤية نسبية أيضا، من خلال فقدان مستوى الرفاه، أو بعض الصعوبات التي تترتب على الانتقال إلى بلدٍ شرقي، ومساحة الفرص والتوازن المتاح، كالعمل عن بعد، أو التردد على الأسرة في مكان مطمئن يؤمّن حياة آمنة ومتقدمة في التعليم، وهذا يتوفر في ماليزيا على سبيل المثال.

أو من خلال الإقامة في دول خليجية أو حتى في الأردن أو المغرب، وبالنسبة لمن ليس لهم أهل ولا مجتمع حاضن، فإن البحث عن الحي المناسب، أو (الكمباوند المغلق) قد يساعد على تهيئة هذه الأجواء، التي تحتاج أيضاً اهتماماً كبيراً من الوالدين.

وهذه البيئات المتوازنة قد تتحقق في الدولة الغربية نفسها، من خلال ثلاثية البيت الواعي المربي، والمدرسة الرشيدة والمجتمع الصغير الداعم المتضامن، أي مجموعة أسر صديقة متحالفة تتعاون في دعم أطفال كل منها، وبالتالي فإن الأجيال تعبر في سكينة تضمن لها الحفاظ على أصول دينها وقيمها، كما أنها تعرف كيف تتعامل مع طبيعة قوانين دولة المواطنة ومجتمعاتها، وتخلق أرضية لجيل قادر على صناعة آفاق أكثر خبرة ومهارة، على تنفيذ مشروع اجتماعي يحمل المسلمين في الغرب، إلى مرحلة الاندماج بحسب حقوقهم القيمية وليس الإدماج القهري.

فهنا يُدرَس واقع كل شريحة وظروفها، أين هي من المهددات النفسية والاجتماعية، وأين هو الأصلح لها في البقاء بظروف جيدة في الغرب، أو الانتقال الموسمي إلى دولة شرقية تجد فيها هذه الأسرة، الحد المقبول للمعيشة، والطمأنينة الإيمانية والأخلاقية، هذا على مستوى الأفراد والأسر.

أما على مستوى المجتمعات المسلمة فإن طبيعة التحديات أكثر تعقيداً، وهي على مسارين رئيسيين، مسار البنية الحاضنة للأسرة والطفولة، وكيف يتم تهيئة الظروف الأفضل لها، وقبل ذلك فريق الإعداد للبرامج الاجتماعية التأهيلية، ومساحة وعيه لبرامج ومفاهيم التربية الفكرية، التي هي الأساس في تحقيق القاعدة الصلبة، لانطلاقة واعية متمكنة من فهم رسالة الإسلام خارج أرضه، وفهم بنية المجتمع الذي تقيم فيه، وانضمت الأسرة المسلمة لمواطنته، وكيف تشكلت القوانين والأعراف فيه، وما هي قاعدته الفلسفية في التاريخ الغربي الحديث.

وأما المسار الثاني، فهو من خلال إعادة تنظيم الرؤية في التقدم للعمل العام، على مستوى البلديات ومجالس المدن، وعلى مستوى البرلمانات الإقليمية والفدرالية، وعلى مستوى منظمات المجتمع المدني، بحيث تنتقل المجتمعات المسلمة في الغرب، إلى برنامج الفعل لا ردة الفعل، وتخوض الحياة السياسية بشروطها، وتضبط تحالفاتها وتتحول إلى كتلة ضغط مؤثرة، وإلى قوة مستقلة فاعلة على مستوى المحليات.

وتعبر بثقة إلى المجتمع الآخر لاستقطابه، وصناعة الجسور معه، من خلال قواعد التحالف الكبرى للمفاهيم الإنسانية، وليس البقاء في دائرة القلق والرعب من اليمين العنصري، فاليمين متعدد الشرائح، واليمين العنصري نفسه، فيه كتل موظفة استغل جهلها بالإسلام والمسلمين، ومثّل السلوك السيئ والجانب المظلم من واقع بعض المسلمين دلالة قبيحة، تخيفهم من هذا الدين ومجتمعاته.

فضلاً عن شرائح الوطن الغربي الأخرى، أكانوا سكاناً اصليين أو أقليات مختلفة، فبقاء مساحة فراغ ضخم مع هذه الشرائح، يُعزز قدرات اليمين المتشدد، والتوجهات الثقافية المتطرفة في اليسار الاجتماعي، في استهداف المسلمين، فالمسلمون في الغرب بحاجة إلى انتفاضة فكرية، تحملهم إلى اكتشاف فلسفة الإسلام ذاته، وتميز عدالته الاجتماعية، وفوائد تطبيقاتها في الحياة الإنسانية.