سيطرت نظرية المؤامرة على عقلية العامة، ليس في العالم العربي وحده، بل في العالم كله، فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ونظرية المؤامرة تلف كل أنحاء الأرض، بل استدعت أحداث 11 سبتمبر حوادث اغتيالات وحروباً من التاريخ، لا تزال مُبهَمة في تفاصيلها وأسبابها وتداعياتها.
اليوم، ومنذ السابع من أكتوبر، تعود هذه النظرية إلى الصدارة، وتتعزّز أكثر مع هجمات الكيان الصهيوني المجرم على لبنان الحبيب، آلاف الغارات ومئات الشهداء، وعشرات الآلاف من المهجّرين، جعلت المشهد المعقّد في الشرق الأوسط يزداد تعقيداً، وبالتالي يحتاج إلى تفسير لا يملك خيوطه عامة الناس، فيكون الملاذ هنا، وفي محاولة ملء للفراغ، من خلال اجتهادات قائمة على أحداث تاريخية مشابهة.
وفقاً للعالِم السياسي مايكل باركون، تعتمد نظريات المؤامرة على نظرة أن الكون محكوم بتصميم ما، وتتجسّد في ثلاثة مبادئ: لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط بعضه ببعض.
لكن أليست مسألة أن لا شيء يحدث بالصدفة هي بالفعل حقيقة مسار الأحداث؟ وأليس كل شيء فعلاً مرتبط بعضه ببعض؟ وأليست المؤامرة في تعريفها اللغوي المقابل هي المُخطّط أو الاستراتيجية؟ المسألة إذاً هنا لا تعدو عن كونها اختلافاً في التعريف والمرادف اللغوي فقط، فكل ما يحدث، خاصة في مجالات السياسة والعسكرية والاقتصاد، يسير وفقاً لمخطّط استراتيجي مستقبلي مرسوم، وغالباً ما يبدأ بسرّية تامة، حتى لا يتصدّى له أحد في بداية التخطيط، ثم تبدأ الصورة في التجسّد في مرحلة التنفيذ.
ينتقد البعض من يُفرِط في اللجوء إلى نظرية المؤامرة، أو الذي يؤمن بأن مجموعة من النخب العالمية تسيطر وتتلاعب بالحكومات والصناعة والمنظمات الإعلامية في جميع أنحاء العالم، وبأن الأداة الأساسية التي يستخدمونها للهيمنة على الدول هي نظام المصرفية المركزية، التي قاموا من خلالها بتمويل معظم الحروب الكبرى، التي وقعت خلال المئتي عام الماضية، وشن الهجمات المزيّفة لإشعال النعرات، مع الحرص على إيصال حلفائهم إلى المناصب العليا لتحقيق أهدافهم، وغير ذلك الكثير، لكن أليس هذا بالتحديد ما يحدث، ليس في التاريخ البعيد بل في الحديث منه؟ ألم تؤدِ أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى شَرعَنة وتحديد مفهوم الإرهاب من جانب واحد، وبالتالي إضفاء الشرعية على حرب أفغانستان، وتدمير العراق، وتخريب سوريا، ووضع إسرائيل في خانة الدول المتحضّرة الراعية للديموقراطية والداعمة للحريات والمناهضة للإرهاب والعنف؟
قد لا تقتصر مُفرَدة مؤامرة على حياكة وتفصيل الأحداث مسبقاً، بل تشمل كذلك استثمار الحدَث وتطويعه لمصلحة المتآمر، وبشكل مفرط أحياناً، وكما يحدث اليوم في غزة، حيث استخدم الكيان الصهيوني، وبمؤازرة الغرب المستفيد، أحداث السابع من أكتوبر لتدمير غزة وتحقيق أهداف إسرائيل في المنطقة، وها هي الصورة تصبح أكثر وضوحاً مع اجتياح الكيان الصهيوني للبنان، وجرأة القيادات العسكرية للكيان في الحديث علانية عن حلم إسرائيل الكبرى في شرق أوسط جديد تحكمه وتتحكم فيه. صحيح أن اللجوء المُفرط للاستعانة بنظرية المؤامرة يعكس ضعفاً وملجأً للضعفاء غير القادرين على الفهم أو المواجهة، لكن إنكارها بالمطلق يتعارض مع فكرة أن السياسة هي فن المراوغة والتخطيط، وأن الحرب هي لعبة الكر والفر، مع التحصّن واليقظة ورسم استراتيجية النصر، وبغض النظر عن الأدوات والسُّبُل.