إن هذا الشعب (روما) العظيم (مع كثير) من سوء استعمال (ما هو هذا السوء لم يوضح روسو)، لم ينقطع (في تاريخه) عن انتخاب الحكام وسن القوانين، والقضاء في الدعاوى وإنجاز الاعمال الخاصة والعامة، بأسهل من نظام (السنات – أعضاء البرلمان- أو مجالس الشعب) (في القرن الثامن عشر وما قبله).

جان جاك روسو

يُركز روسو على طريقة تنظيم طبقات الشعب، للوصول إلى برنامج عملي لحصر مجموعاتهم، وشرائحهم في أُطرٍ محكمة الترتيب، لما يعتبره ضماناً لقوة الحكم ومركزيتها، ثم الوصول إلى آلية التصويت التي أُعجب بها، والحقيقة أن كل هذا العرض من روسو، يحتاج إلى نقاش وتفكيك دقيق، وخاصة بأننا نستقي جدلنا معه، من خلال مخياله المتصور، وليس من خلال حقائق ثابتة، في المرجع النهائي لتاريخ الدولة الرومانية.

وبالتالي لا وجود هنا في معيار روسو لمساحة الظلم والعدل، ولا الرفق والرفاه، ولا مشروعية الحرب والسلام ولا العبودية، ولا أخلاقية الفرد الطبيعي وفطرته، وهذه كلها قِيمٌ اهتم بها روسو، في كتبه الثلاثة (رسالة التفاوت) و(إميل) و(العقد الاجتماعي).

بل إن تاريخ الدولة الرومانية، يحوي من الظلم القاسي والدموي، ما لا يُبرره نجاحهم في تنظيم الحكم الميداني، المعجب به روسو، ونقصد بقاء الحكم مرتبط بالميادين العامة، يخرج لها الشعب بعمومه، وهكذا يستطرد روسو في قصة صناعة الطبقية الرومانية، وخلق العشائر بناء على المهن أو الأصول، أو التوظيفات للطبقات الدنيا، من حرفيين وغيرهم، في حين قد تبقى طبقات الأشراف لها الخصوصية التمييزية الأولى.

ونُلاحظ هنا أن العشائر التي قُسّمت في نموذج روما، لم يكن تقسيمها بناء على تشكل طبيعي، لأعراق أو أقوام، على الأقل في مساحة ليست قليلة منها، ولكنه كان تقسيماً حسابي واقتصادي واجتماعي، وهذا بحد ذاته يتصادم مع طبيعة الفطرة، في تكوّن القبائل والأعراق، التي نص عليها القرآن الكريم، وخلق منظومة التعايش فيها ثم التعارف، الوطني والدولي بالمصطلح الحديث، أو الأقوام والأممي والكوني، في قوله تعالي:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

لاحظ هنا أن الله ينادي الخلق كلهم في عموم الآية بيا أيها الناس، فهو خطاب يشمل المسلمين وغير المسلمين، كما هو سياق تاريخ الرسالة الإسلامية، والتقوى لا يتعارض معناها الديني مع معناها الأخلاقي، من حيث إن الخيرية مستوجبة لمن هو أفضل سلوكاً وعدالةً وإحساناً، كما هو تعبداً لله عز وجل.

واستمر تعامل النهج النبوي، في شعوبٍ توالدت في إطار التاريخ الاجتماعي الطبيعي، وليس من خلال مسطرة رياضيات تفرضها الدولة الرومانية في تقسيم الناس إلى شرائح، وهذا ينص عليه روسو بأن السلطة المركزية للرومان، تدخلت في عدة مراحل في فرض التقسيمات العشائرية، كما جرى من سرفيوس وهو الملك السادس لروما القديمة، فألغى تشكل اجتماعي قبلي وأنشأ آخر، كما وزّع القبائل إلى ريفية وإلى مدنية رومية، وقد أثنى روسو على نمــوذج الروح الريفـــيــة والزراعية، سواءً في الطبقات الريفية أو حتى من داخل رومــة.

ومحل ثناء روسو هو أن القبائل المدنية (سكان المدينة) كما الريفية مرتبطون بالحقول، فهو يراهم قد أُبعدوا عن الحالة البرجوازية، فماهي هذه البرجوازية التي يشير لها روسو، وما هي روابط العلاقة بينها وبين برجوازية فرنسا وجنيف، في القرن الثامن عشر، حيث عاصر هذه الطبقات؟

كما أن العبيد العتقاء، أُدرجوا في قبائل المدينة، وسُمح لكل شخص أن يُسجّل نفسه في أي قبيلة يشاء، وبالتالي أضحت القبيلة كيان وهمي لا حقيقي، ثم أعاد توزيع شرائح العشائر الكبيرة، إلى مستويات اقتصادية، ثم عسكرية من حملة السلاح وغيرها، وظلت التقسيمات تجرى.

وفي إشارة إلى الروح الوثنية التي قُسمت بها عشائر روما، يبدو أن هذا التقسيم كان يخضع لحكم الآلهة الذي تداخل مع الحضارة الرومانية، ولذلك استدرك روسو على سرديته أو مخياله، في أنهُ لا يجزم بصحة هذه التقسيمات ولا بخللها، لكنه يربطها بروح الزراعة والبساطة، ثم يستدعي في نقده الشعب الحديث.

يقر روسو في أكثر من موضع بصناعة العشائر والتدخل فيها من الملك، وهناك بعد وثني (ديني) عميق في صورة الملكية في روما القديمة، يصادم مفهوم الفطرة الدينية والله الحق العدل، الذي تؤمن به النفس، كما في فلسفة روسو، لكن الكنيسة غيّبته، وبالتالي فإن هدف تقسيم العشائر هنا وظيفي للسلطة الشمولية، وهو ما يُثير الغرابة في إطلاق روسو إعجابه، ويؤكد تأثير إشكاليته الصراعية الخاصة، مع طبقات باريس وجنيف في القرن الثامن عشر.