من ضمن الأسئلة التي انفجرت برحيل د. عمارة رحمه الله اتجاهان متعاكسان، الموقف الحاد من رفاقه العلمانيين وخاصة الماركسيين في حياته، حيث كان أول شبابه مثقفاً يسارياً، في حين كان التشكيك من بنية إسلامية لدور قلمه التنويري، وتأثير الإرث اليساري عليه، وإعادة الاهتمام بتيار المعتزلة الفكري، الذي أعطى العقل مساحة واسعة لفهم النص الشرعي، وهي قضية لا يفي معها كتاب فضلاً عن مقال.
لكن يجب التأكيد في قضية فكر المعتزلة، بأن دعايات الخصوم التي لم تخلُ من التوظيف السياسي، والنزاعات المصلحية والشخصية ضدهم، قد شوهتهم بلا ميزان إنصاف، يفهم وجود نزعتهم الفكرية العقلية، في وقت متقدم من تاريخ المسلمين كدلالة على عظمة الوعي التحرري والعقلي، في آفاق الشريعة، وحيوية جدلها في قلب أروقة الدولة المسلمة.
والذي ظلت له مساحته، رغم العنف الذي وجه لهم أو وجه عبرهم، كمؤشر قراءة قوي لمساحة الحرية المعرفية، مقارنة بالغرب المسيحي، رغم تلاعب الاستبداد العربي والصفوي والعثماني القديم، في مسارات الفرق الإسلامية وصراعها.
وهذا لا يُسقط حق نقدهم، والتوظيف السياسي العباسي العنيف لفكرتهم، في محنة خلق القرآن للإمام أحمد وغيره، وهي قضية مهمة جداً، لدى الباحث العربي في التراث الإسلامي الغني بالكنوز، وكيف نفصل جولات الشيطنة، التي مورست لأغراض سياسية أو صراع العلماء، وبين فهم دلالات الرأي والاجتهاد، في نصوص الشريعة ووعيها المقاصدي.
وأهمية الإيمان بأن ليس كل خلاف بين الفرق الإسلامية، هو دلالة تضاد مع النص ورفض الشريعة، كما يصور الخصوم من كل طرف، بما فيه العهد المعتزلي الأول ضد خصومه، وهنا نفهم تماماً موقف د. عمارة رحمه الله وحفرياته في إرث المعتزلة، التي تناولها الباحث اليمني أ. نبيل البكيري في مقال نشر في «العربي الجديد» مؤخراً.
أما المسار الثاني في فكر د. عمارة فهو المنظور اليساري للمثقف، وأن توقيعات هذا المنظور ظلت قائمة في قلمه، وحركة حواره الفكري ونقده العقلي المزدوج للتراثيين واللائكيين، وهذا أمرٌ طبيعي تماماً بل علامة تميّز لا نقصان.
إنك حين تقلب تاريخ فكر أ. سيد قطب رحمه الله، وهو أحد أبرز منظري الحركة الإسلامية الحزبية العربية، ستجد خطين مختلفين ولغتين بينهما فرق واضح، وحتى في تفسيره في ظلال القرآن، فحين يتناول تفكيك النظرية أو النظام المعاصر في جولة فكر تستدعي العبور إلى نظرات العقل، تكون عباراته أعمق وأوضح وأهدأ في وصول الفكرة.
أما حين يكون في رواق استدعاء تعبئة مشاعره الأيديولوجية، أمام ظلم العسكر المصري له في نظام الرئيس عبد الناصر، فالتعبير هنا محتقن وعاطفي يعبر عن غضب المظلوم، الذي قد يفقد ميزان فكرته أمام غضبه، ولنلاحظ هنا الفارق بين كتاب سيد قطب معالم في الطريق، الذي جمع من ظلال القرآن وبين كتابه التصوير الفني في القرآن الكريم، فالأخير كان في وعيه الفلسفي الأول للرسالة، حيث تبرز معادلة المعرفة والمقارنة المتقدمة، وقد كان خارج المواجهة يتناول الفكرة بتفكيك هادئ.
هنا نفهم أن سعة اطلاع د. محمد عمارة رحمه الله، وبالذات عبر خلفيته الفلسفية اليسارية، ثم التحول من خلال قناعة فكر وميزان الوجدان الفطري، إلى الإيمان بالمعادلة الإسلامية الكلية، وخاصة مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر اليساري، وكيف تفوقت فيها الفكرة الإسلامية، ونظمت المعرفة والحقوق معاً، ولم تُقصِ أو تخرج الشرائح الأخرى غير الكادحة، فإننا نرى أن هذا العمق هو عمق إضافي، لا يستطيع أن يصل إليه من لم يطلع على الجدل الفلسفي المعاصر. إن وجود الخلفية اليسارية للمفكر الإسلامي المميز في تاريخنا، هو مسار طبيعي، ولذلك حوت مصر التي ولد فيها هذا الوعي أ. خالد محمد خالد ود. عبد الوهاب المسيري ود. محمد عمارة، فتحولوا للفكرة الإسلامية، من خلال وعي مدار الجوهر الأخلاقي والمعرفة الإيجابية للحياة الإنسانية، وأدركوا كيف حُطمت ثنائيتها تحت فلسفة الغرب الحديث.بقلم: مهنا الحبيل
لكن يجب التأكيد في قضية فكر المعتزلة، بأن دعايات الخصوم التي لم تخلُ من التوظيف السياسي، والنزاعات المصلحية والشخصية ضدهم، قد شوهتهم بلا ميزان إنصاف، يفهم وجود نزعتهم الفكرية العقلية، في وقت متقدم من تاريخ المسلمين كدلالة على عظمة الوعي التحرري والعقلي، في آفاق الشريعة، وحيوية جدلها في قلب أروقة الدولة المسلمة.
والذي ظلت له مساحته، رغم العنف الذي وجه لهم أو وجه عبرهم، كمؤشر قراءة قوي لمساحة الحرية المعرفية، مقارنة بالغرب المسيحي، رغم تلاعب الاستبداد العربي والصفوي والعثماني القديم، في مسارات الفرق الإسلامية وصراعها.
وهذا لا يُسقط حق نقدهم، والتوظيف السياسي العباسي العنيف لفكرتهم، في محنة خلق القرآن للإمام أحمد وغيره، وهي قضية مهمة جداً، لدى الباحث العربي في التراث الإسلامي الغني بالكنوز، وكيف نفصل جولات الشيطنة، التي مورست لأغراض سياسية أو صراع العلماء، وبين فهم دلالات الرأي والاجتهاد، في نصوص الشريعة ووعيها المقاصدي.
وأهمية الإيمان بأن ليس كل خلاف بين الفرق الإسلامية، هو دلالة تضاد مع النص ورفض الشريعة، كما يصور الخصوم من كل طرف، بما فيه العهد المعتزلي الأول ضد خصومه، وهنا نفهم تماماً موقف د. عمارة رحمه الله وحفرياته في إرث المعتزلة، التي تناولها الباحث اليمني أ. نبيل البكيري في مقال نشر في «العربي الجديد» مؤخراً.
أما المسار الثاني في فكر د. عمارة فهو المنظور اليساري للمثقف، وأن توقيعات هذا المنظور ظلت قائمة في قلمه، وحركة حواره الفكري ونقده العقلي المزدوج للتراثيين واللائكيين، وهذا أمرٌ طبيعي تماماً بل علامة تميّز لا نقصان.
إنك حين تقلب تاريخ فكر أ. سيد قطب رحمه الله، وهو أحد أبرز منظري الحركة الإسلامية الحزبية العربية، ستجد خطين مختلفين ولغتين بينهما فرق واضح، وحتى في تفسيره في ظلال القرآن، فحين يتناول تفكيك النظرية أو النظام المعاصر في جولة فكر تستدعي العبور إلى نظرات العقل، تكون عباراته أعمق وأوضح وأهدأ في وصول الفكرة.
أما حين يكون في رواق استدعاء تعبئة مشاعره الأيديولوجية، أمام ظلم العسكر المصري له في نظام الرئيس عبد الناصر، فالتعبير هنا محتقن وعاطفي يعبر عن غضب المظلوم، الذي قد يفقد ميزان فكرته أمام غضبه، ولنلاحظ هنا الفارق بين كتاب سيد قطب معالم في الطريق، الذي جمع من ظلال القرآن وبين كتابه التصوير الفني في القرآن الكريم، فالأخير كان في وعيه الفلسفي الأول للرسالة، حيث تبرز معادلة المعرفة والمقارنة المتقدمة، وقد كان خارج المواجهة يتناول الفكرة بتفكيك هادئ.
هنا نفهم أن سعة اطلاع د. محمد عمارة رحمه الله، وبالذات عبر خلفيته الفلسفية اليسارية، ثم التحول من خلال قناعة فكر وميزان الوجدان الفطري، إلى الإيمان بالمعادلة الإسلامية الكلية، وخاصة مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر اليساري، وكيف تفوقت فيها الفكرة الإسلامية، ونظمت المعرفة والحقوق معاً، ولم تُقصِ أو تخرج الشرائح الأخرى غير الكادحة، فإننا نرى أن هذا العمق هو عمق إضافي، لا يستطيع أن يصل إليه من لم يطلع على الجدل الفلسفي المعاصر. إن وجود الخلفية اليسارية للمفكر الإسلامي المميز في تاريخنا، هو مسار طبيعي، ولذلك حوت مصر التي ولد فيها هذا الوعي أ. خالد محمد خالد ود. عبد الوهاب المسيري ود. محمد عمارة، فتحولوا للفكرة الإسلامية، من خلال وعي مدار الجوهر الأخلاقي والمعرفة الإيجابية للحياة الإنسانية، وأدركوا كيف حُطمت ثنائيتها تحت فلسفة الغرب الحديث.بقلم: مهنا الحبيل