خاض مالك بن نبي معارك كبرى، اشتبك فيها مع الأخ والرفيق والصديق، وجاهد ضد الفرنكوفونية، التي نجحت في حصاره من داخل الجزائر وخارجها، خاصة في أيامه الأخيرة رحمه الله، وخلال المعركة اشتبك تحرير نظرياته، بذات الصراعات التي اجتهد فيها ظالماً أو مظلوماً، فاختلطت الأفكار، وبات من الصعب فرزها، فقررتُ أن أخوض رحلة تحرير لتفكيكها وفاءً لجهاده.
وشراكة مع دعوته في وصيته المعنوية كما سماها، في سبيل تكامل يشبه سباق التتابع في الجري الأولمبي، قلم يتسلم الراية من قلم آخر، رغم أن من سبقه أفضل منه بكثير، كما في حالتي مع مالك بن نبي وبقية رواد فكر النهضة، لكن المهم أن أواصل الجسر، فأصِلُ الجيل الحالي بالأول، ثم أضع ما استجد من بصمات نقد، تساهم في تجديد حراك البعث الإسلامي، لنهضة الأمة الذاتية.
ولقيمها التي تقود الإنسانية، حتى لو طُورد الإسلام، وحوصر أهله، وشارك بعض منتسبيه في اغتيال فكرته، فإن الأمانة سوف تصل، إلى جيل النهضة المأمول، نزرع فسيلتهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى آخر لحظة قبل أن يؤذِن الله بنهاية الدنيا ويرثها ومن عليها.
ورأيتُ أن أفصل المسار إلى قسمين، بعد أن تتابعت الرؤية لدي واتضحت أكثر، دون أن تكون هذه الرؤية مُغنية عن جهود الأخوة في الجزائر وخارجها، ولكن لكون أن مسيرة مالك بن نبي، هي في الأصل دعوةٌ عالمية للحرية الإنسانية، التي استيقظت عند انصرام الاحتلال العسكري، واستبداله بالاحتلال السياسي والمعرفي للعالم الجنوبي. وأن القرآن هو أساس الجهاد الفكري عند مالك بن نبي، فكان من الطبيعي أن يُشارك فيه تلاميذه عبر السطور، التي أوصلها الله لهم بعد رحيله، في أمة الشرق، لتقر عين مالك بن نبي بما قدّم وهو في الملأ الأعلى.
فقرأتُ مذكراته، وتأملتها في أفكاره التي كان يقفز فيها دوماً، إلى صراعاته السياسية والثقافية، واجتهدتُ في إنصافه رحمه الله وفي نقده، بحيث تُمثل هذه المادة، جسراً مهماً لمن أحب أن يعود لقراءة فلسفة مالك بن نبي، ونحن نقول هنا فلسفة مالك بن نبي، وفلسفة رواد فكر النهضة دون تردد، للرد على هذا الإشكال الذي طرأ على لغة البحث العربي اليوم، بحسب رؤيتنا في محددات الفلسفة المعاصرة، والأمر ليس تعصباً، ولكنه استقلالٌ عن هيمنة المشارطة الغربية على العلوم الإنسانية، ومريديها المقلدين.
هذا التفكيك والمتابعة التي حملتني، لمراجعة البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية، والنفسية والاقتصادية لمالك بن نبي، ساعدتني كثيراً في تنظيم أفكاره وعزل ما بين الانفعال والموقف، مما يُسهّل وضع أفكاره في مسار أيسر للاستيعاب.
أما المسار الثاني فهو العودة لأصل فلسفته في حضور الإسلام، كمقاوم حضاري للصلف المادي وراعيه الاستعماري، ثم المؤسس لنظرية المسلم الأخرى لهذا العالم، وهي الظاهرة القرآنية، فهذه الظاهرة ظلت الأصل في جوهر فكر مالك نبي، وهي أفضل ما كتب في تقديري، والتنظيم الجدلي الذي عرضه، في المقدمات ثم النتائج، بعثٌ فكري تميّزت به الظاهرة القرآنية، ولا يزال أثرها، بل أهميتها حتى اليوم، حين نرصد الحملات الغربية وغيرها، على القرآن الكريم.
لكنني في نهاية الأمر أخاطب هذه الروح التي تعبت لأجل إيصال هذه الرسالة للأمة، وأدعو له بأن يكون قد رأى عوض الله له، عما أصابه من البلاء في رسالة البلاغ، وفي ذات الوقت أرجو أن يجد ما أقر عينه، حين يُريَه ربه حجم التداول والخدمة لأفكاره، أفكارٌ تعود لنا اليوم وكأننا في أمس الحاجة لها، بسبب انقطاع الطريق الكارثي الذي يعبر على الأمة اليوم.
ليس من حيث التأليف بالضرورة، ولكن بسبب كثرة النكوص وطغيان الشعبوية، على مصالح الفكرة الإسلامية، وبالتالي يتمكن الانحطاط من جديد في جسد الأمة، انحطاطٌ كان جزءً منه مسؤولية ذاتية، أخطأت فيها الأمة، فتمكّن عدو الإنسانية منها، فتضاعفت خسائر العالم في انحطاط المسلمين.
ولعل أجيال الجزائر اليوم التي تعيد قراءة مالك بن نبي، تنطلق في معهد جديد ينفض الغبار، ويُعيد بعث رحلة مالك بن نبي، بمأسسة جديدة تنخرط فيها الدولة، وتتحرر تماماً من عهدة الرئيس هواري أبو مدين، التي حاصرت مالك بن نبي بتوثيقه الشخصي في مذكراته، رغم معرفتي بالمساحة التي فُتحت عن مالك بن نبي مؤخراً، لكنها ليست كافية.
فإذا كان ديغول رفض اعتقال ميشيل فوكو، خلال التحامه مع مظاهرات اليسار الفرنسي، وقال لن تعتقل باريس عقلها، فإن الجزائر الحُرة أم الشهداء، وقلعة المقاومة، أولى أن تردّ الاعتبار لعقل النهضة فيها، ولراية المقاومة الفكرية باسمها لأجل الحرية والكرامة الإنسانية، التي أعلنتها الظاهرة القرآنية.